2024/09/01

ثورة سبتمبر أنهت الملكيّة لكنّها لم تحقّق الديموقراطيّة

 حينما يفكّر الإنسان ويستخدم عقله فإنّه يحلّل ويستسفر ويستنتج ويخرج بخلاصة واقعيّة وعمليّة. إن التركيز على ذكر المشاكل لا يحلّها، والتفكير في الحلول هو النافذة التي تطل على أفق المستقبل.

اليوم بكل تأكيد يشهد الذكرى الخامسة والخمسون لثورة أوّل سبتمبر 1969م، وسواء إختلفنا أو إتفقنا في التسمية، وهل كانت إنقلاباً أو ثورة؛ فتلك تبقى من إحداثيات التاريخ التي خلت وذهبت وأصبحت في حكم "الماضي" الذي لا يمكننا تغييره، ولا يمكننا إنكاره؛ وإنّما ربّما يمكننا تعويضه أو الإستفادة من أخطائه.
بالنسبة لما حدث في عام 1969م أقول بكل حياديّة ومن باب الإنصاف كان إنقلاباً عسكريّاً قام به بعض من صغار ضبّاط الجيش الليبي، وكان وطنيّاً بإمتياز، ولم يكن مبرمجاً أو مخطّطاً من الخارج. تلك هي حقيقة، وذلك بالفعل هو اليقين الذي علينا التوافق حوله. ما حدث بٌعيد إنقلاب الجيش كان بكل صدق وبكل معرفة... كان بالفعل ثورة شعبيّة عارمة شملت كل شبر في أرضنا الليبيّة؛ بما في ذلك تلك المناطق التي كان فيها الكثير من التعاطف مع النظام الملكي مثل بنغازي، والبيضاء وطبرق. الذي شاهدناه حينها وعايشناه ولمسناه وشاركنا فيه كان بصدق إلتفاف شعبي ووطني حول إنقلاب الجيش على نظام كان الشعب الليبي يعرف يقيناً حينها وقبلها بأنّه كان نظام حكم فاسداً ومهترءاً، ومليئاً بكل أنواع الإفلاس الإداري والمهني. كذلك؛ فإن النظام الملكي كان بصدق وبيقين عميلاً لأمريكا وبريطانيا، وكان عرشه محميّاً بهما من خلال تلك القواعد العسكريّة التي كانت تربض على تراب بلادنا. كان الملك نفسه متخلّفاً وزِمنيّاً ولا يمتلك تلك الخبرة السياسيّة التي تؤهّله لحكم بلد. لم تكن ليبيا في عهده ديمقراطية، وكانت الواجهات السياسية من مجلس النوّاب والشيوخ، والأحزاب ما هي إلّا أشكال كاذبة للديموقراطيّة... أي أنّها كلها كانت شكليّة، وليست أكثر من ترضية لمن كان يحمي النظام الملكي في ليبيا.
بالنسبة للعقيد معمّر القذّافي ومن كان معه من صغار ضبّاط الجيش... أقولها وبكل صدق وإنصاف بأنّهم بدأوا من دوافع وطنيّة، وبأنّهم بالفعل كانوا يسعون لتغيير الأوضاع في بلادنا، والإنتقال بليبيا من نظام ملكي متخلّف ووضيع إلى نظام جمهوري يتجّه بالبلاد نحو بناء الصٌرح الديموقراطيّة المتوفّرة في المنطقة حينها. كان ذلك الإحساس هو السائد في كل أطراف البلاد من عام 1969 وإلى 1975م؛ حيث بدأ القذّافي بالفعل يستثمر الحب والإندفاع الشعبي نحوه بما أشعره على أنّه ربّما هو بالفعل "الزعيم الأوحد"، وعلى أنّه هو الوحيد من كان قد قام بالتغيير في ليبيا، ومن حينها أخذ الفساد ينتشر في سدّة الحكم حتى وصلنا إلى ما سمّي حينها ب"الثورة الشعبية"، ومسرحيّة المؤتمرات الشعبية وسلطة الشعب.
بدأ الخراب ينتشر في بلادنا منذ عام 1976م؛ وحينما يبدأ الفساد في عقل وتفكير الحاكم فإنّه بكل تأكيد سوف ينتشر ويتعاظم ويصبح أمراً مفروضاً بقوّة البطش والطغيان... وذلك ما حدث في ليبيا.
القذّافي أيضاً بسبب غياب الخلفيّة السياسية عنده، وبسبب التنشأة في بيئة بدويّة لم يكن يحمل في مخّه ذلك الأفق السياسي العميق الذي يجعل منه قائداً سياسيّاً يحسب ويوازن ويقدّر ويستدرك... والأهم؛ يتعلّم من أخطائه. كان القذّافي بالفعل يفتقد إلى أيّ نوع من "البصيرة" أو "التدبّر" أو "الإحتساب" وبذلك دخل في أنفاق "الشبق النفسي" من حيث الشعور بالزهو والعلوّ والفخامة التي أدّت به في النهاية إلى مزابل التاريخ. كان القذّافي في واقع الأمر "ضيّق الأفق"، وكان يفتقر إلى تلك الحنكة السياسيّة المحتسبة ممّا أشعره بأنّه هو "الزعيم الأوحد" ومن ثمّ غيّب نفسه عن الواقع، وبدأ يحيط نفسه بالمنافقين الذين زادوا من سمك جدار العزلة الذي بدأ يحيط نفسه به؛ ممّا ربّما دفعه للهروب بكل غباء نحو أفريقيا، ومن بعدها بصدق الوقوع في الهاوية... فكانت نهايته وسخة وقذرة ومذلّة، ولم يكن له وقتها من يحميه أو يتعاطف معه أو حتى من يندم على فراقه.
إنتهى نظام القذّافي بكل مثالبه، وبكل مآسيه، وبكل قذاراته، وبقينا نحن "الشعب الليبي" نعاني من التبعات المرّة. بقينا نحن "الشعب الليبي" نتجرّع كل المآسي والألام التي تركها لنا الطاغية القذّافي، وكنّا نحن بالفعل هم "الضحايا" والخاسرين... ومازلنا للأسف حتى هذا اليوم نعاني ليس من تبعات نظام حكم القذّافي، وليس من تبعات نظام الحكم الملكي قبله؛ وإنّما من تبعات ثقافتنا ومعارفنا وغباءاتنا السياسيّة التي ورثناها عنهما، والتي من قبلهما ورثناها من واقعنا ومن ثقافاتنا المتدحرجة.
كيف يمكننا الخروج من واقعنا؟
هذا سؤال صغير وبسيط؛ لكنّه بكل تأكيد في معانيه ومراميه كبير ومعقّد. كيف يمكننا الخروج من الواقع الذي وجدنا أنفسنا نعاني منه منذ 17 فبراير 2011م؟. لا أدري.... لا أمتلك إجابة، ولا توجد لديّ تلك النباهة لأطرح إجابة شافية لهذا السؤال.

ربّما تسليط بعض الضوء على وضعنا في ليبيا الآن يفتح المجال للتفكير في البحث عن مخارج عمليّة لواقعنا المزري الذي ورثناه:
  1. ليبيا أصبحت متشرذمة، ومتصادمة، وضعيفة، ووضيعة، وغير مستقلّة.
  2. لم نتمكّن من خلق نظام حكم لدولة في أي ركن من أركان البلاد.
  3. لم تمتلك ليبيا جيشاً وطنيّاً يحميها.
  4. سيطرت على ليبيا عقليات متخلّفة وأنانيّة ولا تحمل ذرّة من الوطنية سواء كان ذلك في غرب البلاد أو في شرقها.
  5. في غرب ليبيا سيطر طغاة وحقراء السلفية والوهابيّة وبقية تجّار الدين المتخلّفين حتى النخاع.
  6. في شرق ليبيا تفاءلنا خيراً في البداية؛ لكنّنا إكتشفنا اليوم بأن السيّد خليفة حفتر هو أكثر طغيانيّة من القذّافي نفسه، وأكثر مصلحيّة ونفعيّة منه.
من هنا يمكنني القول بأنّه لا خير فيمن يحكم ليبيا اليوم سواء في غربها أو في شرقها... فكيف هو المخرج؟.
علينا التفكير الجماعي، وعلينا البحث عن مخارج من واقعنا المحزن إلى ربّما عالم آخر قد يفتح لنا أفقاً تؤدّي بنا إلى بناء دولة عصريّة، ديموقراطيّة، ومتمدّنة. أنا لا أراها مستحيلة، ولا بصدق أظنّها مستحيلة. أنا أراها ممكنة، وواقعيّة، والأهم... أنّني أراها ضروريّة.
فلنفكّر معاً في مشاريع ومحاولات التغيير بدل التركيز على إنتقاد أوضاعنا المحيطة. إن الإنتقاد لا يمنكه أن يحدث التغيير؛ فلننظر إلى الأمام، ولنفكّر معاً، ولنبحث عن وسيلة أو وسائل يمكننا بها الخروج من هذه الدائرة المفرغة التي نعيش فيها... ولنتفاءل ببناء دولة تتسع لنا كلنا أبناء وبنات ليبيا. يومكم سعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء وضع تعليقك