أنا دائماً أشعر بالسعادة ولا أعرف الضجر أو التبرّم لأنّني أؤمن بأن الحياة حلوة وعلينا بأن نراها كذلك ونتمتّع بها. أنا أرى بأن الناس يجب بان تكون قنوعة وأن يرضى كل شخص بنصيبه في هذه الدنيا، وأن لا يربط الإنسان سعادته بكثرة أو قلّة الثروة. المال لا يمكن له أن يشتري السعادة للإنسان، وكم مليونير هو غير سعيد، وفي المقابل كم فلاّح وريفي هو أسعد إنسان على الأرض مع قلّة ما يملك هؤلاء.
في واحدة من عياداتي المسائيّة إستقبلت "جورج" وكانت بمعيّته زوجته وأعجبت بالكيفيّة التي يفكّر بها جورج والتي تفكّر بها زوجته.
جورج في بداية السبعين من عمره ويعاني من مرض باركنسون. زوجته كانت مرافقه له، وهي بكل تأكيد من يهتم ويعتني به بكل حب وبكل حنان.. وبكل حماسة لدرجة أنّك تحسّ منها بأنّها وفي هذا العمر تعشقه بشكل جنوني.
جورج مع مرضه الباركنسون، يعاني أيضاً من كثرة التريّق (Sialorrhoea)؛ ومن هنا فهو يتردّد على عيادة البوتيولاينم (البوتوكس) التي أديرها أنا وأحقن من يحتاج لهذا النوع من العلاج ماعدا حالات التأهيل التي تخضع لقسم التأهيل العصبي.
أنا أعرف جورج وزوجته لأكثر من سنة، وهو يتردد على هذه العيادة كل ثلاثة أشهر لإستلام علاجه الذي يستفيد منه كثيراً بما يسمح له بالتمتّع بكل نشاطاته الإجتماعيّة ويوفّر له أوقاتاً مريحة في البيت بدون الحاجة لمسح لعابه أو إرتداء موانع تخفّف من تبلّل ملابسه بلعابه المنحدر من فمه (مريقات).
زوجة جورج قالت لي اليوم: يا دكتور كلّما نأتي إلى عيادتك نجدك مبتسماً ومرحاً وتحكي معنا بكل رحابة صدر، وإستغربت أنا وزوجي لماذا أنت هكذا كلّما نأتي إليك نجدك سعيداً.
قلت لهما بأن هذه هي ظاهرة طبيعيّة بالنسبة لي، فأنا من المؤمنين بأن الطبيب يجب بأن يكون مرحاً ومستريحاً ويتحدّث إلى مرضاه بكل أخويّة. أنا لا أتعامل مع الأمراض وإنّما أتعامل مع بشر يشكون من أمراض، فأعامل كل مريض على أنّه إنسان قبل أن يكون مريض.
بكل تأكيد أعجبهما مثل هذا الكلام فإبتسما وظهرت علامات الإرتياح على وجهيهما. واصلت كلامي: أنا أرى بأنّ الإبتسامة لا تكلّف ولا بنساً واحداً، فلماذا لا يبتسم الطبيب لمرضاه ويمزح معهم ويتبادل مع مرضاه أطراف الحديث عن الجو والمواصلات والعطلات الموسميّة وما تنقله وسائل الإعلام المختلفة من أخبار وأسرار ومفاجآت. قلت كذلك: أنا دائماً أشعر بالسعادة ولا أعرف الضجر أو التبرّم لأنّني أؤمن بأن الحياة حلوة وعلينا بأن نراها كذلك ونتمتّع بها. أنا أرى بأن الناس يجب بان تكون قنوعة وأن يرضى كل شخص بنصيبه في هذه الدنيا، وأن لا يربط الإنسان سعادته بكثرة أو قلّة الثروة. المال لا يمكن له أن يشتري السعادة للإنسان، وكم مليونير هو غير سعيد، وفي المقابل كم فلاّح وريفي هو أسعد إنسان على الأرض مع قلّة ما يملك هؤلاء.
كم أعجبهما مثل هذا الكلام، وكم إستراحا لسماعه من دكتور يظنّان بالطبع بأنّه غنيّاً ويملك الكثير من المال !. هنا قالت زوجة جورج بأنّ زوجها يحمل مثل هذه الأفكار تماماً، وهو لا يهتم كثيراً بوفرة أو ندرة المال لأنّه يرى السعادة تصنع في داخل الإنسان ولا تشترى بالمال. وأضافت قائلة: جورج إنسان كريم جدّاً، فمع أنّنا لسنا أغنياء لكنّنا بكل تأكيد نعيش بكرامة ومستريحين لوضعنا الإقتصادي، لكن جورج دائماً يقول لي لو أنّنا إستطعنا توفّير جنيهاً أو أكثر من مصاريفنا اليوميّة فلا تنسي أن نتبرّعي بها للفقراء والمحتاجين. هنا تدخّل جورج بهدوئه ورصانته وثقافته الواسعة ليقول: أنظر يا دكتور إلى العالم من حولنا كم يوجد به من فقراء ومحتاجين ومعدومين، وكم من الأطفال يتعذّبون نتيجة للحروب في الشرق الأوسط... ما ذنب أولئك الأطفال الأبرياء ليتحمّلوا أخطاء الكبار؟. قال جورج: لو أنّني كنت أملك أموالاً كثيرة لقمت بإنشاء معسكرات ترفيهيّة لأطفال سوريا والعراق واليمن وليبيا حتى أشعرهم بالسعادة التي يفتقدونها في كل يوم.
كم تأثّرت بكلام جورج خاصّة وأنّني لمست صدقه فيما يقول وتعرّفت على مدى تحمّسه لأفكاره الإنسانيّة التي يقيناً لم تميّز بين مسلم أو مسيحي، وبين عربي أو أوروبّي. كان جورج ينظر إلى كل إنسان على أنّه إنسان وكفى بغض النظر عن عرقه ولونه أو دينه وإعتقاده.
هنا قلت في نفسي: فعل الخير والآحاسيس الإنسانيّة ليست هي صفة دينيّة ولا إعتقاديّة بقدر ما هي سمة إنسانيّة ينفطر عليها الإنسان منذ ولادته وقبل أن يصبح مسلماً أو مسيحيّاً أو يهوديّاً أو لادينيّاً. قلت في نفسي: ما أروعنا كبشر لو أننا إلتقينا حول قيم إنسانيّة بعيداً عن الحساسيّات التي كان سببها سوء فهمنا وتفسيراتنا للدين، وكان سببها أيضاً عنصرية الإنتماء للعرق... وكان سببها أيضاً المغالاة في الأنانيّة وحب الذات إلى درجة تلامس "الشوفينيّة" والتكبّر على الآخرين من خلال هذا الشعور العنصري البغيض الذي قد يصل أحياناً إلى ما يشبه النرجسيّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك