في حياتنا توجد الكثير من الغرائب والعجائب، ولكل زمان غرائبه. غرائب الزمن القديم لم تعد غرائباً في زمننا هذا، وغرائب زماننا سوف لن تكون غرائباً في زمن من سوف يأتي بعدنا. تلك هي سنّة الله في خلقه، وما علينا إلّا أن نفكّر ونتدبّر ونسأل السؤال "لماذا". حينما نسأل "لماذا، نجد أنفسنا ملزمين بالبحث عن إجابة، وتلك تعني إختراعاً أو إكتشافاً أو إستدراكاً... وبذلك فقط نقدر على أن ننتقل إلى الأمام.
قبل العبور للحديث عن "المدسوسات المرعبات"، فكّرت أنّني اليوم أحاول أن أشرح بعض الظواهر من الواقع المعاش حتى تكون الصورة واضحة للجميع؛ لأن الحديث عن تلك "المدسوسات المرعبات" قد يكون ذى شجون كما يقولون !!.
توجد لديّ ثلاثة أمثلة رائعة من واقع الحياة، وكل مثال منها يشرح الكيفية التي يتكيّف معها مخّ الإنسان بحيث أنّه يستجيب لظواهر غريبة ولكن أيضاً بطرق غريبة تفتح الباب واسعاً لعمليّات التخيّل والإستعانة بأفكار السحر والجن وبقيّة مكوّنات العقلية التي يفكّر بها "شيوخ الدين" ومن يصدّق كل ما يقولونه له بدون أيّ توقّف أن مماحكة أو "تدبّر".
وحيث أن الحديث عن كل ظاهرة يعتبر هو بدوره موضوعاً متكاملاً وقد يتطلّب الأمر أنّني أقسو عليكم بقراءة مقال طويل !!. وبما أنّ كل محتويات هذا الجانب تعتبر كلّها في جوهرها موضوعاً واحداً، لذلك إرتأيت تقسيم الموضع إلى ثلاثة أجزاء، ولكن تحت نفس الحلقة السادسة عشر(16 أ،ب،ج).
الألم الشبحي
في الجزء الأوّل من هذه النافذة، سوف أتحدّث اليوم عن ظاهرة مهمّة جداً، وهي مجرّبة عند الكثير من الناس الذين عانوا من نفس المشكلة. إنّها ظاهرة "الألم التخيّلي"، والتي تسمّى أحياناً ب"الألم الشبحي" Phantom pain وهي تنجم عن قطع عضو من جسم الإنسان مثل الرجل أو اليد لأسباب مرضيّة منها السكّري ومنها الغانغرينا ومنها الإحتباس الدموي نتيجة لجلطة شريانية.
هذه الظاهرة حيّرت الأطباء لعقود من الزمان، وكانوا يظنّون بأنّها "نفسيّة" ومن تخيّلات المريض. هذه الظاهرة يمكن وصفها بإحساس المريض بأن مكان العضو المبتور (ساق الرجل مثلاً) يسبب ألماً شديداً أحياناً، وبأن الألم هو في الأصابع أو في الساق، أو في أيّ مكان تحت البتر !.
العلماء بعد بحث ودراسة وتمحيص توصّلوا إلى أن تلك الألام التي يحسّها المريض ويشير إلى مواضعها "التخيّلية" هي ألاماً حقيقيّة تتجذّر من النخاع الشوكي والمخ.
الكثير من الناس لم تتمكّن مخاخهم من إستيعاب أن العضو المبتور هو لم يعد هناك، ويتعامل معه المخ وكأنّه مازال موجوداً. هذا النوع من الألم عادة يكون شديداً، ولا يستجيب بسهولة للعقاقير المسكّنة للألم بما فيها ملك تسكين الألم "المورفين".
بعد إجراء الكثير من البحوث والتي شملت التخطيط الكهربائي، الرنين المغناطيسي ثلاثي الأبعاد، والتصوير المقطعي بالإنبعاث البوزيتروني PET scan أبانت بأن المناطق المخيّة والتي تغطّي العضو المبتور تصدر ومضات حسيّة عند لمس مكان العضو المقطوع... عند اللمس في الهواء. هذا النوع من الأحاسيس يمكن وبكل سهولة نسبه لفعل "الجِنّة" أو "السحرة" لأنّه بالفعل يبدو وكأنّه سحراً !!.
تفسير العلماء لتلك الظواهر الغريبة هو أن المخ يمتلك قدرات كبيرة جداً على الإحتفاظ بالذكريات(قديمها وحديثها)، وإذا حدث وأن تم قطع عضو ما من جسم الإنسان بسرعة وفي مرّة واحدة فإن المخ لايستجيب لذلك بمحو الذكريات السابقة؛ ومن ثم يعيدها المخ في كل مرّة يتم فيها لمس مكان العضو المبتور، أو إرتطام الفراغ (مكان العضو المبتور) بأي جسم خشن، أو عن طريق الوخز المقصود أثناء إجراء بعض التحاليل الحسيّة.
الذي يؤكّد ذلك التصوّر هو أنّه كلّما كان الألم شديداً قبل عمليات البتر، وكلّما تم القطع في وجود الألم كلّما حدثت تلك الظاهرة. ووجد العلماء كذلك بأنّه في حالة تسكين الألم كلية وقبيل إجراء عملية البتر وذلك بإستخدام قاتلات الألم مثل المخدّرات؛ فإن المريض سوف لن يعاني من ظاهرة الألم التخيّلي أو الشبحي أو "الجِنّي". وتلك الخلاصة البحثية اودت بإصدار نصيحة لكل من يقوم بعمل بتر أن يتأكّد من السيطرة على الألم وبأية وسيلة قبل إجراء الجراحة.
وقّاكم الله، وفتح عليكم أفقاً واسعة تكون نوافذ نحو معرفة الكثير من المجاهيل الحياتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك