حينما نفكّر في الوقت المناسب فإنّنا نكون مستعدّين لكل طارئ، وحينما نستخدم عقولنا للبحث عن الأصلح فإننا لا نحتاج لأن نلوم أنفسنا على التقصير إن حدث. لقد حبانا الله بنعمة العقل، فعلينا أن نستخدمها ونجيد الكيفية التي نستخدمها بها.
كل الأنظار في الوقت الحالي هي منصبّة الآن على عمليات الجيش الوطني وفي الخلفيّة هناك توق وترقّب لذلك اليوم الذي تدخل فيه أوّل طلائع الجيش إلى ميدان الشهداء في وسط عاصمتنا الحبيبة طرابلس، وذلك لمن مازالوا يعيشون على وهم هزيمة الجيش ودك معاقل قيادته في الرجمة.
الجيش سوف ينتصر يا سادة ويا سيّدات، وذلك النصر سوف يكون حقيقيّاً ويقينيّاً وفاعلاً. إنتصار الجيش على المليشيات هو أمر واقع ومن بديهيات الأشياء لمن يفهم قليلاً في المنطق ولمن يمتلك المقدرة على الحساب وتدبّر الأشياء. الجيش سوف ينتصر وليبيا سوف تصبح كلّها تحت سلطة وحماية الجيش بكل تأكيد.
من هنا فإنّني أدعو من الآن إلى البدء في التفكير فيما بعد إنتصار الجيش، وكيف يمكننا الإنتقال إلى الأمام حتى لا يكون إنتصار الجيش من حيث الفعالية مثل إنتصار ثورة فبراير في علم 2011. فقد إنتصرت الثورة حينها لكنّها لم تتمكّن من المحافظة على إنتصارها لعدم وجود "خطّة عمل"... لعدم وجود أهداف أخرى لتلك الثورة أكثر من هدفها الوحيد وهو تغيير نظام الطاغية القذّافي وإنهاء تسلّطه على الشعب الليبي.
حينما إنتصرت ثورة فبراير بثوّارها من الشباب والشابّات الذين خرجوا بكل عفويّة وبكل وطنيّة وبكل إصرار على التحرر.. حينما إنتصرت تلك الثورة لم تتمكّن من العبور إلى الخطوة اللاحقة، إذ لم تكن هناك في تفكير الشباب أية خطوة لاحقة. عدم وجود خطّة في تفكير الشباب الثائر حينها تركت البلاد في فراغ رهيب، فقد أُنهي النظام القائم ولم يكن هناك في الأفق أي بديل له. أحدثت ثورة فبراير فراغاً كبيراً ولم تتمكّن من ملئه لعدم وجود برنامج عمل معد سلفاً. وجود ذلك الفراغ، وإنتهاء الدولة بكل مؤسساتها بما فيها الجيش والشرطة حوّل ليبيا إلى ساحة مفتوحة لكل من هبّ ودب، وهذا شجّع كل الحقراء والإنتهازيين من سماسرة الثورية وتجّار الدين ومعهم كل السرّاق والمنتفعين لدخول "الزريبة" والإنتشار فيها كل كما إشتهى وإنتهينا إلى وضع مازلنا نعاني من تبعاته ومضاعفاته إلى يومنا هذا. أنا حاولت - عمداً - العودة بالذاكرة إلى عام 2011 حتى يتسنّى لنا جميعاً تذكّر تلك الأخطاء وحتى نتعلّم منها بحيث لا نسمح لها بالتكرار هذه المرّة.
بكل تأكيد الوضع في هذه المرّة يختلف، لكن النتيجة قد تكون مشابهة. الجيش ينتصر في العاصمة فتهرب المليشيات ويختفي النظام السابق(حكومة الصخيرات) لتنتهي معها كل مؤسّسات الدولة الحاليّة ولو أنّها كانت صوريّة لكنها كانت بكل تأكيد روادع للناس. الجيش يدخل العاصمة والمليشيات تفر وتفر قبلها حكومة الصخيرات وتحدث بلبلة مؤقّته في كل مكان بما في ذلك سفارات ليبيا في الخارج وممثليات الدول في ليبيا من سفارات ومكاتب إدارية وإستشارية وما إليها من ملحقات.... فهل سوف تأتي قيادة الجيش بخطّة عمل قابلة للتنفيذ وبشكل فوري؟.
هناك الكثير من السيناريوهات يمكن تصوّرها في مثل تلك الظروف، ولكن أتمنّى بأن يبدأ التفكير فيها من الآن وأن يتم توزيع المهام لأصحاب الإختصاص إعتباراً من هذه اللحظة حتى يكون كل شخص مستعد لحمل المسئولية.
الشئ الذي قد نتفق عليه كلّنا وبسهولة هو "دخول مرحلة إنتقاليّة جديدة"، ولكن كيف ستكون حيثيات هذه المرحلة الإنتقاليّة المتوجّب حدوثها؟.
أنا أرى بأنّه سوف يكون هناك خيارين لا ثالث لهما:
أوّلاً: حكم عسكري إنتقالي بقيادة المشير خليفة حفتر... أو:
ثانيا: إعادة الإعتبار للأوضاع في عام 2014 أي قبيل إنقلاب "فجر ليبيا" وما تبعه.
من وجهة نظري، فإنّ اللجوء إلى فرض حكم عسكري إنتقالي سوف لن يسعد أولئك الشباب والشابات الذين بكل صدق كانوا قد ثاروا على نظام الطاغية القذّافي بهدف تغييره، وأنا هنا فقط أتحدّث عن "الثوار الحقيقيّين"... عن أولئك المخلصين الذين أنهوا حكم الطاغية ثم عادوا إلى بيوتهم تاركين ليبيا في أيدي وقبضة "المجلس الإنتقالي" الذي تشكّل بعجالة لسد الفراغ الناشئ عن نهاية نظام حكم الطاغية معمر القذّافي، لكن ذلك المجلس إتضح فيما بعد بأنّه لم يكن بالفعل يعكس رغبة الثوّار ولم يفعل ما كان مطلوباً منه، مع أنّه كان جسراً نحو الإنتخابات وفي تلك المهمّة علينا الإعتراف بأن المجلس الإنتقالي كان بالفعل قد قام بما يلزم ونجح بكل جدارة في تأسيس سدة حكم جديدة في ليبيا.
إنشاء مجلس عسكري إنتقالي لتسيير الأمور في ليبيا أراه ليس بالإختيار الموفّق وأتمنّى بألّا يكون الخيار الفروض على الساحة الليبيّة.... أتمنّى من كل قلبي بأن لا أراه يحدث.
الخيار الثاني ويكمن في إعادة السلطة بالكامل إلى مجلس النوّاب كجهة تشريعيّة وحيدة والإتيان بحكومة السيّد عبد الله الثني إلى العاصمة وإعطائها كل صلاحيات الحكومة في الدولة الليبية تحت مراقبة ومتابعة مجلس النوّاب.
أنا أرى بأن هذا الإختيار قد يكون فعّالاً، وقد يملآ الفراغ الحاصل، وقد يساهم في تهدئة الأوضاع وتقديم الخدمات العاجلة للمواطن. لكننا هنا قد نحتاج إلى رأس للدولة... رئيس للدولة.
في هذه الجزئيّة المهمة جداً أتمنّى ومن كل قلبي بأن لا تكون تلك المهمة من إختصاصات قائد الجيش ولو بصفة مؤقّته. لابد من ترك الجيش بقيادته لشئون الجيش... وشئون الجيش فقط. من هنا تظهر مشكلة أمام "المشرّع" وهي "رئيس الدولة"... فهل بالإمكان تسيير دولة بجهاز تشريعي جهاز تنفيذي بدون رأس للدولة؟. أنا أعتقد بأن ذلك ليس تفكيراً حسناً، فقد جرّبناه خلال السنوات الثمانية الماضية وتكشّفنا بكل تأكيد على عدم نجاعته. من سوف توكل إليه رئاسة الدولة مؤقتاً إذاً؟.
هذا سؤال من الصعب الإجابة عليه في هذه المرحلة الإنتقاليّة وفي ظل غياب دستور للبلاد، لكنني أقترح رئيس مجلس القضاء الأعلى للقيام بهذه المهمّة لفترة زمنية معروفة ومحددة ومستلزماتها تكون معروفة أيضاً. تكليف رئيس مجلس القضاء الأعلى بمهام رئيس الدولة في فترة إنتقالية مدتها عامين لا يزيدان يوماً واحداً - بحيث يترك خلالها وظيفته الحاليّة - يتم خلالهما تحقيق الآتي:
- يقوم الجيش ببسط سيطرته الكليّة على كامل التراب الليبي وتأمين حدود البلاد بما فيها كل المعابر بين ليبيا ومحيطها الخارجي.
- يتم إنشاء جهاز شرطة متكامل في كل أنحاء ليبيا تكون أولى مهامه توفير الأمن والآمان للمواطن وممتلكاته، وكذلك أمن وممتلكات كل الأجانب الذين يقيمون في بلادنا بما فيها السفارات والقنصليات والشركات الأجنبية ومكاتبها. كما تتعاون الشرطة مع الجيش في تنظيف البلاد من كل العابثين بأمنها وسلامتها.
- يقوم الجيش بالقضاء على كل المليشيات المسلّحة أو غير المسلّحة، وتقوم الشرطة بمعاونة الجيش وذلك بتجميع كل قطع السلاح الغير مشرّع بحملها من كل من يحملها بدون ترخيص.
- يقف الجيش بكل قوّة مع الشعب لمراقبة الحكومة في أدائها وكذلك السلطات التشريعية والقضائيّة حتى تقوم كل جهة بواجباتها كما أنيطت بها.
- تقوم الحكومة بإختيار لجنة جديدة للدستور يباركها مجلس النوّاب ويعتمدها قبل الشروع في مهامها على أن تحدد مدة عملها ب6 أشهر فقط، تتبعها 3 أشهر للمناقشة والمراجعة والتنقيح؛ بحيث تعرض الصيغة النهائيّة للدستور على الشعب لإقراره في مدّة أقصاها 9 أشهر قبل نهاية المرحلة الإنتقالية.
- بمجرّد إعتماد الدستور الجديد من قبل الشعب يفتح الباب لكل الليبيين والليبيّات لتأسيس الأحزاب الوطنية والتنظيمات وفق لوائح الدستور، بحيث تلغى كل الأحزاب السابقة لأنها غير شرعيّة وكانت قد تأسست في غياب الدستور.
- يفتح المجال واسعاً لتأسيس تنظيمات المجتمع المدني والصحافة الحرة كبداية سابقة وبفترة كافية للإنتخابات البرلمانية والرئاسيّة.
- تجرى عمليات إنتخاب البرلمان الدائم ورئيس الدولة في مدة لا تتجاوز 6 آسابيع قبل نهاية المرحلة الإنتقالية.
- تستلم السلطات المنتخبة كامل مهامها بكل سلاسة في اليوم الأخير من الفترة الإنتقالية ويكون الجيش هو الراعي لكل تلك التحوّلات والبرامج بحيث يمنع الجيش أي تجاوز مهما كان نوعه ومهما كان مصدره ولو أدى ذلك إلى التدخّل المباشر للقيام بما يجب.
- تقوم الحكومة المنتخبة بعد إعتمادها بتسلم قيادة الجيش العيا في صفة وزير الدفاع المدني، وتعلن قيادة الجيش إلتزامها الكامل وقبولها الطوعي بالخضوع للقيادة المدنيّة.
بذلك تكون الدولة الجديدة قد تأسست، وبذلك فإن أبواب المستقبل سوف تفتح على مصراعيها، وبذك فسوف يبدأ قطار الحياة في بلادنا في السير الآمن والمبرمج إلى الأمام... وبذلك فسوف نخرج من الحالة المؤسفة التي نعيشها الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك