حياة يسيّرها العلم وتحدّد معالمها نتائج الأبحاث ومخرجات الإختراعات هي حياة واثقة وناجحة ومبدعة ومتحضّرة وواعدة. حينما نحتكم إلى عواطفنا ونستند إلى خيالاتنا في مناقشة الأمور أو طرح البدائل فإنّنا بذلك نبتعد عن المنطق ونتخفّى عن الواقع.
تفيد الحسابات الفلكيّة الدقيقة والعلميّة بأن شهر شوّال سوف يظهر مساء الإثنين وبأنّه سوف يمكث 6 دقائق بعد غروب الشمس في مكّة المكرّمة، وسوف يمكث 9 دقائق في طرابلس ليبيا، و3 دقائق في لندن. فهل يمكن رؤية الهلال في ذلك الزمن القصير؟.
يقول الفلكي السعودي "ملهم هندي"، عضو الإتحاد العربي لعلوم الفلك والفضاء، إن الحسابات الفلكية تشير إلى أن الهلال سوف يمكث وقتاً قصيراً بعد غروب الشمس مساء الإثنين ولا يمكن رؤية الهلال في ذلك الزمن القصير وبذلك فهو يقول بأن العيد هو يوم الإربعاء !!.
أريد هنا أن أعود إلى موضوع "الرؤية" وما هي دلائله حتى نكون على بيّنة من أمورنا وحتى لا نأخذ الكلام على عواهنه بدون بحث أو إستقراء أو تبيّن. علينا بأن نعيد التفكير في كل شئ وأن نستخدم عقولنا قبل قبول أيّ شئ إن كنّا بالفعل نسعى إلى تسيير أمورنا وفق أسس تفكيرنا ووفق إعتباراتنا التي تناقش وتستفسر ولا تقبل بأيّ شئ غير مقنع لمجرّد أن غيرنا كان قد قاله لنا أو صرّح به أو ربّما أنّه كان قد ألزمنا بإتّباعه.... أو قد يكون أفتى به لنا.
أنا أعرف يقيناً بأن "الرؤية" - رؤية الهلال - لم ترد في القرآن إطلاقاً، وبأن الإستناد في ذلك يرتكز على "حديث" يروى عن الرسول يقول: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوماً))، في حين لم تذكر الرؤية في القرآن إطلاقاً، وبأن كل ما ذكر في القرآن هو: {{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ}}، وهنا نلاحظ كلمة "شهد" بدل "رأى" وفي ذلك هناك إختلافاً كبيراً. لماذا الله إستخدم "شهد" بدل "رأى"، أليس في ذلك حكمة علينا البحث فيها والتعرّف على كنهها؟. ألا يجوز هنا القول بأن إختيار الله لكلمة "شهد" بدل "رأى" كان لحكمة في إعتبارات الخالق بحيث أنّها ربّما تبقي الباب مفتوحاً لإختراعات وإكتشافات وإبتكارات الغد؟.
كلمة "شَهَد" هي بالطبع ليست "شاهد" وهي تعني حضر، عاين، أدرك، أو عاصر... لكنّها يقيناً لا تعني "رأى". فشاهد المحكمة على سبيل المثال ليس هو من شهدها وتلك تعني من رأى أو سمع أو لمس أو وقع عليه الأمر. إذاً فكيف يمكننا التعامل مع ما كان قد روي عن الرسول بأنّه عليه الصلاة والسلام كان "ربّما" قد قال: "" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته""؟.
إن المتتبّع لذلك الحديث فسوف يجد روايات كثيرة له وبآساليب مختلفة مما قد يعني بأن الرواة قد لا يكونوا صادقين في رواياتهم من ناحية ، وحيث أن ذلك "الحديث" كان قد تواتر على ألسنة البشر وبكل تأكيد لم تكن هناك "إفادة" خطّية أو دليل مادّي على صحّة قول الرسول له. ومن ناحية أخرى فيمكن القول بأن رسول الله كان يتعامل مع معطيات زمانه وموجودات مكانه. فلم يكن في عهد الرسول هناك علم فلك ولم تكن هناك مراصد ولم تكن هناك حينها أقماراً صناعيّة. كان مستوى تعليم الناس وكم ثقافتهم محدودين جداً حتى وإن أعتبر ذلك رائعاً في زمانهم. كان على الرسول عليه السلام أن ينصح أتباعه بما يعرف وبما يتوافر لديه، ومن ثمّ فموضوع "السُنّة" بكل تأكيد يحتاج إلى إعادة نقاش وبحث ومناكفات لأنّ ما كان قد قاله رسول الله يعكس تفاعله مع محيطه ومع ثقافة وعلوم زمانه وليس بالضرورة أن يصبح ذلك ملزماً لنا نحن من يعيش في هذا الزمان، وليس بالضرورة أنّ ما نعرفه الآن سوف يكون ملزماً لمن يأتي من بعدنا؛ فالحياة هي تسير إلى الأمام وتنتقل إلى الأمام ومن ثمّ فسوف تبقى علومنا ومداركنا صغيرة جداً مقارنة بضخامة الكون وبعظمة الخالق الذي خلق هذا الكون.
من هنا أنا شخصياً أرى بأن شيوخ الدين أصبحوا اليوم بالفعل خارج زمانهم بسبب طريقة تفكيرهم التي تستند على معطيات الماضي وبسبب بعدهم الكبير عن تطوّرات الحياة البشريّة نظراً لمحدوديّة مصادر علومهم ومحدوديّة مداركهم وضيق أفق إطّلاعاتهم، وكذلك إصرارهم على العيش بمعطيات الماضي وتنكّر أغلبهم لعلوم العصر مع أن ذلك التنكّر هو "إنتقائي" بإمتياز. فهم يستخدمون شاشات التلفزيون، ويستفيدون من علوم الأقمار الصناعية في عمليات البث والدعاية، وهم يستخدمون الهواتف النقّالة، ويركبون الطائرات والسيّارات ويتقاضون مرتبات ويرصدون أموالهم في المصارف وما إليها من مستخدمات نواتج العصرنة.
من الناحية المنطقية والواقعية والعلمية بكل تأكيد، فحينما يبقى الهلال بعد غروب الشمس ولو كان ذلك لثانية واحدة فإنّ ذلك بحد ذاته يحتّم إعتباره بداية للشهر الجديد، والحساب يجب بأن يلغي الرؤية ذلك لأن الرؤية كانت قد "أُشترطت" في زمن لم يكن فيه الحساب موجوداً. من هذا المنطلق فإن أوّل أيّام العيد يجب بأن تكون يوم الثلاثاء وليس الإربعاء، ولكن وللأسف مازال لشيوخ الدين سلطة الأمر إلى أن تتمكّن بلاد المسلمين من إعتماد العلم والعلماء الحقيقيّون (ليس شيوخ الدين الذين يسمّون أنفسهم علماء) في شرعنة مجريات الأمور وفق أسس علمية ومنطقية وواقعيّة تثبتها وتبرهن عليها حسابات يقينيّة وليس رؤية تخضع للكثير من الإعتبارات والتي من بينها موانع الرؤية الطبيعية التي نعرفها مثل السحاب والضباب والشبّورات المائيّة وغيرها من الموانع التي تعتمد في الزمن القديم على حاسّة النظر عند البشر وفي زماننا هذا على مقدرة المناضير والمراصد على رؤية الأشياء الصغيرة وذات الطيف الضعيف في وجود بقايا شعاع الشمس عند الغروب. فمناضير المستقبل سوف تكون أكثر دقة وأكثر مقدرة على الرؤية من مناضير اليوم وكذلك هي المقدرة على إستخدام التقنية العصريّة.
ومن هذا المنطلق فأنا أطالب وبكل قوّة بالإستناد إلى الحسابات العلمية التي لا تقبل الشك ولا تتغيّر مع الزمان، فحقائق العلم بمجرّد ثبوتها تصبح أمراً ملزماً وأشياء ثابته لا تتغيّر مع الزمان ولا تتغيّر مع المكان. عيدكم مبارك وأيّامكم كلّها سعادة وإرتياح وهناء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك