البدعة هي من الإبداع ولا يمكن رفض الجديد بحجّة أنّه يختلف عن الماضي. العالم يسير إلى الأمام ولا يمكننا إيقاف مسيرته أو تغيير وجهته، والمنطق يقول: من لم يركب قطار الزمن سوف يبقى وحيداً في مكانه إلى أن ينتهي.
لا يعرف تحديداً متى أختير يوم 14 فبراير من كل سنة ليكون يوم الحب، ولم يحدد بالضبط أي حب يتم الإحتفاء به.
للحب أشكال وأنماط مختلفة منها حب الله، حب الوالدين، حب الأبناء، حب الجيران، حب الأصدقاء، حب الناس، حب الخيرات، حب التملّك... إلخ.
القصّة بعيدة جداً وعميقة في كتب التاريخ، غير أنّها تحوم حولها الكثير من الشبهات من حيث التاريخ، والمناسبة، ومن هو بالضبط القس فالينتاين Saint Valentine ؟.
القصّة الأصلية تبدأ في روما عام 269 ميلادي حيث تم إعدام القسّ فالينتاين بعد أن قام بتزويج إمرأة برجل في وقت منع فيه الإمبراطور كلوديوس الشباب من الزواج لأنّه كان في حالة حرب وكان يظن بأن الشباب المجنّدين من المتزوجين لا يفلحون في الحرب، ذلك لأنّّهم حينما يذهبون إلى الجبهة يبدأون في التفكير في زوجاتهم وأبنائهم فيتحايلون للهروب ويبحثون عن أي ذرائع تخرجهم من الجبهة... منها التمارض والكذب وإبتداع القصص الخيالية.
القسّ فالينتاين لم يكن راضياً عن ذلك القانون الإمبراطوري الذي يمنع زواج الشباب، وكان يعتبره مخالفاً لتعاليم المسيحية التي تؤمن بالزواج كوسيلة للحفاظ على الجنس البشري.
كان القس فالينتاين يتنقّل بين الكنائس ويتحدّث جهارة عن خطأ الإمبراطور في إصدار قانون يمنع الشباب من الزواج، الأمر الذي أغضب الإمبراطور ودفعه لأن يكلّف مجموعة من القضاة لمحاكمة القس فالينتاين وفق القانون الروماني(قانون الإمبراطور كلوديوس)، وعيّن له مجموعة من القضاة لمحاكمته كان من بينهم القاضي "أستيريوس" الذي كانت لديه إبنة صغيرة عمياء، وفي أثناء المحاكمة أصرّ القس فالينتاين على أن الزواج هو جزء مهم من الدين المسيحي وأن قرار الإمبراطور كان مخالفاً لآوامر الكنيسة. لم يتوقّف فالينتاين عند حد الدفاع عن نفسه، بل إنّه دعى القاضي أستيريوس لدخول المسيحيّة والتقرّب من الرب.
القاضي أستيريوس كان من عبدة الأوثان ومن هنا كان من الصعب عليه القبول بوجود الله وبمريم العذراء وبعيسى المنقذ، وبذا فكان محاججاً شديداً للقس فالينتاين. القس فالينتاين كان متعمّقاً في الديانة المسيحية فواصل الضغط على القاضي أستيريوس ليصبح مؤمناً بالله وبالمسيحية فما كان من أستيريوس إلّا أن طلب من القس فالينتاين أن يعيد بصر إبنته إليها إن كان بالفعل مسيحياً صادقاً.
تقول الرواية بأنّ القس فالينتاين قبل التحدّي وبالفعل وضع منديلاً على وجه إبنة القاضي وقرأ عليها من الإنجيل ونفث عليها من لعابه مستجدياً الرب أن يعيد إليها بصرها، وحينما رفع المنديل عن وجهها بدأت الفتاة تبصر النور !!.
تقول الرواية: وبالفعل عاد إلى إبنة القاضي بصرها فبهت أبوها وفرح بعودة البصر لإبنته مما دفعه لدخول المسيحيّة على غير رضى أو إذن الإمبراطور مما أغضبه كثيراً فأصدر حكماً بقتل القاضي ومعه فالنتاين بدون محاكمة يوم 14 فبراير عام 296 ميلادي ممّا حوّل فالينتاين إلى "شهيد" عند القساوسة في ذلك الوقت، وحوّلوا يوم 14 فبراير إلى عيد سنوي يحتفلون فيه بالنقاء والتعبّد وفعل الخير، كما أعتبر 14 فبراير من كل سنة في ذلك الوقت مناسبة للزواج والتكاثر على عكس ما كان يشتهيه الإمبراطور كولديوس الذي كان من أشد أعداء الكنيسة ورجال الدين في تلك الأثناء.
ظل 14 فبراير من كل سنة مناسبة كنسية لفعل الخير ومساعدة الناس وحب الفقراء والمساكين وتجميع مساعدات لتزويج الغير قادرين حتى عام 1382 ميلادي حينما تم التنويه إلى ربط بين 14 فبراير والحب والزواج، وكان ذلك في كتاب للشعر من تأليف جيفري تشوسر وكان بعنوان "برلمان الأغبياء" والذي كتب فيه قصيدة يقول في أحد أبياتها:
وكان في يوم فالينتين حدّوثته
حينما . . . . سمح للعريس بأن
يختار من بين النساء عروسته
وكان جيفري تشوسر يتغنّى بزواج ملك إنجلترا "هنري الثاني" حينما أصدر قراراً بالسماح بالزواج في عام 1381 حتى يتسنّى له الزواج من خطيبته الأميرة البوهيمية "آن" بعد عام من الحب والغرام والملاطفة، ومن ثم يقول الكثير من المؤرّخين بأن ذلك التاريخ هو ربما بداية تحويل 14 فبراير من يوم الفداء والتضحية من أجل القيم إلى يوم الحب والغرام والمؤانسة.
البداية الحقيقيّة للإحتفال بفالينتاين كيوم للحب والغرام كان ربّما في 14 فبراير 1835م، غير أن ذلك التاريخ كانت قد سبقته الكثير من المؤشّرات بخصوص 14 فبراير وعلاقته الوطيدة بالحب والغرام، كان ربّما من بينها قصيدة لويليام شكسبير في مجموعته "هامليت" القصصية التي صدرت في عام 1600-1601 والتي كان منها:
غداً هو يوم القس فالينتاين
كلّه يحدث في الصباح الباين
من النافذة ستطل عليك وصيفة
لتصبح هي يومك الفالينتاين
تدخل بها وتخلع ما عليك
تقفل الباب من خلفك وتتحاين
تكون بصحبتك وصيفتك
أنت ومعها تبقيان كوامن
من هنا نلاحظ بأنّ وراء الفالينتاين قصّة في حقيقتها تعكس صفات النبل والشجاعة والإنتصار للمبادئ، ثم إذا بها تتحوّل ذكرى للمعاملات الحسنة بين الناس بما فيها حب الغير والرحمة والتآزر وإغاثة الملهوف، وبعدها يحوّلها الناس إلى ظاهرة إجتماعية تحث على التعامل الحسن والتعاشر بغية الزواج والإنجاب، ثم بعد ذلك تتحوّل إلى مناسبة للحب الشريف والغرام المتاح... وأخيراً تتحوّل إلى مناسبة لعلاقات مختلفة وتحت مسمّيات عديدة لكنّها تظل في نهاية الأمر دعوة للحب والتآلف والتقارب والمؤانسة وحسن المعاملة مع الكثير من اللطف واللين والطيبة والوداد بين البشر.
نحن نعرف بأن شيوخ الدين عندنا يعتبرون أن الفالينتاين هو دعوة للبغاء والعهر والمجون والإباحة وما إليها من التوصيفات الغير حميدة، لكن أيّأ منهم لا يعرف بأن الفالينتاين في الأصل لم تكن له علاقة بالحب أو بالغرام أو بالملاطفة أو بالمعاشرة على الإطلاق، وبأن الناس عبر العصور والأجيال.... وكذا تمازج الثقافات، هي من غيّر طقوس وتقاليد وممارسات ذكرى فالينتاين.
قد يقول قائل بأن فالينتاين هي عبارة عن بدعة، وهذه البدعة تقود إلى نار جهنّم، وهنا أود أن أمرّ من خلال البدع البشريّة عبر العصور لآعرف كم من المبدعين سوف يدخلون جهنّم وبئس المصير:
عيد الأضحى هو بدعة
عيد الفطر هو بدعة
عاشوراء هي بدعة
عيد المولد النبوي هو بدعة
عيد رأس السنة الهجرية هو بدعة
عيد الميلاد هو بدعة
عيد الزواج هو بدعة
عيد الميلاد (الكريسماس) هو بدعة
عيد الفالينتاين هو بدعة
عيد العمّال هو بدعة
عيد الشجرة هو بدعة
عيد الأم هو بدعة
عيد الأب هو بدعة
يوم شم النسيم هو بدعة
عيد النيروز هو بدعة
اليوم العالمي للصحة هو بدعة
اليوم العالمي لمكافحة الإيدز هو بدعة
اليوم العالمي لمرضى التوحّد هو بدعة
اليوم العالمي لحقوق الإنسان هو بدعة
وياما من بدع أخرى سوف يدخل مبدعوها في نار جهنّم وبئس المصير....
هل يمكننا بأن نتخلّى عن "البدعة" أو نغيّر مفهومها فنعتبرها من الإبداع، ومن ثمّ ندخلها في سلّم التطوّر الإنساني الطبيعي الذي به وعن طريقه يبدع الإنسان وينتقل إلى الأمام بإبداعاته التي وفّرت لنا الطائرة والسيّارة والهاتف النقّال وجهاز التليفزيون والإنترنت والحواسيب وما إليها من إبداعات عقليّة وذهنيّة وفنّية.... ويجب بألّا ننسى بأن الكثير من "البدع" أو "البدعات" الإنسانية هي من عالجت مرض التدرّن، وقضت على الطاعون والجدري، وهي في طريقها للقضاء النهائي على شلل الأطفال، وسوف تقضي يوماً ما على السرطان والأمراض المزمنة مثل الروماتيزم ومرض التصّلّب المتعدّد ومرض باركنسون ... وأخيراً ربما مرض الزهايمر....؟!.
إن كان كل ذلك يحتسب من البدع، فأحمد الله بأنني أحاول أن أبدع أو أنّني أجتهد من أجل أن ربّما أقدّم للعالم من حولي "بدعة" يستفيد منها البشر من حولي، وتبقى فخراً لي ما حييت.
طابت ليلتكم... وهابي فالينتاين !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك