الدين هو للعبادة، ومن يحاول إقحام الدين في السياسة إنّما هو يقصد الإساءة للدين وتنفير الناس منه. الدين في جوهره يعني العلاقة بين الإنسان وربّه، وكلّما صلحت هذه العلاقة كلّما تحسّنت علاقات الإنسان بمحيطه.
هناك من قال بأن "الصحوة الإسلاميّة" بدأت تبرهن على أنّها حقيقة غير قابلة للجدال. هناك من قال بأن العالم بدأ يعترف بالإسلام ويرضى به حَكماً وحُكماً.
المهم في الأمر، أن الكثير من العاطفيين والعشوائيين أخذوا يهلّلوا مسترسلين في أحلامهم التي تصوّرهم على أنّهم هم الإفضل وهم الأحسن وهم وحدهم من سوف تفتح أمامهم أبواب الجنة وتستقبلهم الحوريات بالأحضان فتسقيهم من أنهار الخمر التي تجري في عرض الجنة وطولها.
أنا سبق لي وأن قلت بأن الدين هو للعبادة وليس للحكم، ومازلت على هذا الرأي وسوف لن أغيّر رأيي في هذا الشأن لقناعتي بأن الدين هو علاقة بين المخلوق والخالق وتعبّد الإنسان هو بمثابة تجسيد لعمليّة الخضوع لله والإعتراف بقدراته وعظمته التي لا يمكن للبشر بأن يحاكوه فيها أو حتى يقتربوا منها. أعتقد بأنّ السيّد الصدّيق خان سوف لن يحكم لندن بالدين وسوف لن يطبّق الشريعة الإسلامية فيها وسوف لن يحكم لندن بالقرآن.
السيّد الصديق خان سوف يحكم لندن بالقانون الإنجليزي، وسوف يواصل نفس النهج الذي كان عليه سلفه المسيحي، وهو نفس النهج الذي كان سوف يسير عليه أي منتمي لأية ديانة أو حتى ذلك الملحد الذي لا يعترف بوجود الله. الناس تحكم بالعلم والخبرة وبمعارف شئون الحكم ولا تحكم بتعاليم دينها الذي تتبعه أو تعتقد فيه.
السيّد الصديق خان علينا - كمسلمين - ألّا ننتظر منه بأن يقفل الملاهي الليليّة والخمّارات، وأن يلغي قوانين التعامل المصرفيّة، وأن يقفل محلّات القمار، وأن يوقف مسابقة اليانصيب الأسبوعيّة، وأن يوقف بيع لحم الخنزير، وأن يأمر بالذبح على الطريقة الإسلاميّة. السيّد الصديق خان سوف يحكم بعلومه الحياتية التي إكتسبها من المدرسة والجامعة ومن مراكز البحث، أمّا ما تعلّمه من الكتاتيب والصوامع فسوف يمارسه في الجوامع.
السيّد الصديق خان سوف يتعبّد في بيته كما شاء، وقد يذهب للمسجد يوم الجمعة لأداء صلاة الجمعة إن هو توفّر له الوقت لفعل ذلك، وتوقّعي شبه اليقيني بأنّه سوف لن يصلّي الجمعة لكثرة مشاغله.
علينا بأن نكون واقعيين وأن نستخدم عقولنا قبل أن نترك العنان لعواطفنا كي تصوّر الأشياء لنا وتقنعنا بإحتمالية حدوثها.
من خلال خبرتي الحياتيّة أنا أستطيع القول بأن الذين ينتمون إلى الأقليات المتجنّسة يبقون ضعفاء ويحسّون دائماً بالدونية أمام إبن البلد حتى وإن ولدوا وتربّوا في بلدهم الثاني، ومن هنا فإن خبرتي معهم أنّهم أكثر تشدّداً من الإنجليز خاصّة عندما يتعلّق الأمر بأجنبي مثلهم من بلدانهم الأصليّة أو من بلاد أخرى.
حينما يرغب الإنجليز في التشدّد في المطارات ومراكز الشرطة وحتى في قطارات الأنفاق فإنّهم يعيّنون آجانب متجنّسين ليضبطوا لهم الأمن والنظام من خلال تشدّدهم على المهاجرين والزوّار بشكل يتجاوز تعامل الإنجليز الأصليين معهم.
هناك الكثير من بلاد العالم من شغل فيها مسلمون مناصب عليا في الدولة مثل أمريكا في شخص باراك أوباما، وفرنسا في شخص نجاة فالو بلقاسم وزيرة التعليم العالي، وألمانيا في شخص السيّدة محترم عرّاس التركية الأصل التي إنتخبت ناطقة بإسم البرلمان الألماني ، وغيرها من بلاد أوروبا التي وصل فيها مسلم أو مسلمة إلى مرتبة وزير أو رئيس حزب أو رئيس بلدية.
يبلغ عدد المسلمين في أوروبا وفق آخر الإحصائيّات 45 مليون مسلماً أكثرهم في أوروبا الشرقية مثل كسوفو وألبانيا والهرسك. وتعتبر فرنسا من أكثر بلدان أوروبا الغربية إزدحاماً بالمسلمين، ثم تليها ألمانيا، ثم بريطانيا ثم هولندا التي يبلغ عدد المسلمين فيها بالنسبة لمجموع السكّان 6%... وفي أمستردام وحدها تصل نسبة المسلمين إلى 25% من كل سكّان العاصمة. هذه الملايين من المسلمين المقيمين في أوربا والمتحصّلين على جنسياتها يعاملون كمواطنين ومن حقّهم تبوء مناصب عالية في الدولة، لكنهم كلّهم في نهاية الأمر يحكمون من خلال أنظمة الدول التي يقيمون فيها ويحملون جنسياتها، وأنظمة الحكم في كل هذه البلاد هي أنظمة "علمانية" تحترم الدين ولا تحتكر العبادة.
نحن في بلداننا العربية والإسلامية كثيراً ما نخلط الدين بالسياسة، وبذلك فإن أنظمة الحكم عندنا كلّها فاسدة ولا يوجد فيها أي نوع من الشفافية أو العدل. ونحن في بلداننا الإسلاميّة لا يمكن أن نسمح بإعلاء سدّة الحكم من قبل غير مسلم ولو كان أذكى شخص في الدولة. نحن لا نولّي أمورنا غير مسلم ولا نولّي أمورنا إمراءة وسبب ذلك أننا ندخل الدين في السياسة وبذلك نفسد الدين ونفسد السياسة ونفسد الحكم.
إن البلاد الإسلامية الوحيدة التي تمكّنت من إحداث النمو والتقدّم لشعبها هي فقط تلك التي إنتهجت النظام العلماني في الحكم من أمثال تركيا وإندونيسيا وماليزيا والإمارات وتونس، أمّا البلاد التي أقحمت الدين في السياسة فهي تعاني من تسرّب الفساد والظلم في كل أركان الحكم فيها وذلك بسبب غياب المساءلة وغياب الشفافية وغياب المحاسبة على إعتبار أن الحاكم هو ولي الأمر وولي الأمر لا تجوز محاسبته ولا محاكمته ولا الإعتراض على قراراته وذلك هو الفساد في أبهى صوره.
العالم من حولنا هو يبحث عن العقول ويبحث عن الخامات ويبحث عن القدرات الذهنية والخبرات المهنيّة ولا يحفل بنوع أو كم أو أسلوب التديّن على أساس أن تلك الأمور تدخل في باب "الأمور الشخصية" التي تمارس في البيت أو آماكن العبادة ولا دخل لها في دهاليز الحكم والإدارة. من هنا نرى أن أجود الخبرات المهنية المهاجرة تترك بلاد الإسلام لتستقر في أوروبا حيث يتسنّى لها تحقيق المزيد من التحصيل العلمي والخبرة المهنية وكذلك المكانة الإجتماعية والإعتبار الرسمي من خلال الممارسة الوظيفية والمهنية التي لا تميّز بين الناس على أسس دينية أو أصول إعتقاديّة، وتلك هي المرحلة التي يتوجّب علينا بلوغها إن نحن بصدق أردنا الإنتقال إلى الأمام ومبارحة دوّامة التخلّف التي وجدنا أنفسنا ندور بداخلها بسبب إقحامنا للدين في كل شئ في حياتنا.
السيّد زين الدين زيدان هو جزائري مسلم، لكنّه كان أجود لاعب كرة قدم في فرنسا. أبدع زين الدين زيدان على الملاعب ما لم يبدعه غيره في آماكن أخرى، ولم يختر الفرنسيون زين الدين زيدان ليلعب في فريقهم الوطني ثم يقوده ثم بعد ذلك يدرّبه ويسيّر شئونه الفنية لآنّه كان مسلماً أو مسيحياً أو لا دينياً ، وإنّما فقط لآنّه كان مهنياً ومحترفاً ومبدعا وبارعاً. السيّد زين الدين زيدان لم يلعب كرة القدم كمسلم وإنّما كهاوي ومحترف وعاشق ومحب لكرة القدم، ولو أن السيّد زين الدين زيدان إستمع إلى شيوخ الدين قبل إحترافه لكرة القدم لما سمحوا له بذلك على إعتبار أن كرة القدم هي بدعة غريبة على الإسلام، فلا النبي عليه السلام كان يلعب كرة القدم، ولا الصحابة كانوا يلعبون كرة القدم، ولا التابعين كانوا يلعبون كرة القدم. لو أن السيّد زين الدين زيدان إستمع إلى شيوخ الدين لما كان قد لعب كرة القدم فهي مضيعة للوقت وملهية عن الصلاة وبدعة تدخل في باب المحرّمات مثلها في ذلك مثل الموسيقى والرقص والغناء.
هنا يقع الفرق بيننا وبينهم، وهنا حيث نجد أنفسنا نقحم الدين في كل شئ فنفسد الدين ونفسد كل شئ.... ونصبح نحن في نهاية الأمر من الخاسرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك