الفصل الأوّل: الحلقات السابقة . . . . الفصل الثاني: الحلقة الأولى الحلقة الثانية الحلقة الثالثة الحلقة الرابعة الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة الحلقة السابعة الحلقة الثامنة الحلقة التاسعة
(الحلقة العاشرة)
من البحر إلى اليابسة... من العصب إلى العضل
في الحلقة السابقة، خرجنا من البحر عن طريق ميناء اللاذقّية إلى اليابسة وتعرّفنا حينها على بعض محتويات اليابسة أو ما يختفي تحت التراب. تعرّفنا في الحلقة الماضية على الأعصاب الطرفيّة وتشعّباتها والإبداع الإلهي في توضيبها وتنسيقها وبرمجتها بحيث تقوم بوظائفها كما يلزم وربّما بأكثر ممّا يلزم خاصّة في حالة حدوث مكروه أو أي أمر مفاجئ.
في حلقة اليوم سوف نواصل الرحلة معاً عبر اليابسة لنتعرّف على المزيد ممّا يختفي تحت التراب (الجلد). فكلّنا يعرف أنّه في عالم الطبيعة يوجد التراب وتحته تتواجد الكثير من التركيبات المختلفة منها الصخور (العظام) وطريقة تواصلها مع بعض (المفاصل)، وتوجد أيضاً الكتل الطينيّة (العضلات) وكيف تترابط هذه الكتل مع بعضها ومع العظام التي تحيط بها(الأربطة) بحيث تبقى التراكيب المختلفة مترابطة مع بعض بشكل قوي ومتماسك ومقاوم لعمليات التغيير اليوميّة التي تشهدها الأرض التي نقف ونمشي عليها، ونستخدمها أيضاً في كل مسالك حياتنا.
حلقتنا لهذا اليوم تتعلّق بالعضلات، وقبل الخوض في التفاصيل دعوني أبدأ ببعض المعلومات العموميّة في هذا المضمار..... يبلغ عدد عضلات الجسم بالنسبة للبشر 650 عضلة مرتبطة كلّها حول المفاصل بأربطة عضليّة تسمّى Tendons، منها 18 عضلة حول العنق، ومنها 42 عضلة حول الوجه، ومنها 6 عضلات تحرّك مقلة العين، و8 عضلات تحرّك اللسان.
كل عضلة في جسم الإنسان تتكوّن من آلاف من الألياف العضليّة تتجمّع في حزم متلاصقة ومتماسكة مع بعض بما يسمح بتمددها وإنقباضها كما هو مطلوب.... التفاصيل توجد أسفله.
دعوني الآن أبدأ بشئ إسمه "الوحدة الحركيّة" أو ما يعرف ب The Motor Unit.... فما هي "الوحدة الحركيّة" وما أهميتها في حياتنا اليوميّة؟.
الوحدة الحركيّة
الوحدة الحركيّة هي وحدة القوّة في كل عضلة، ويمكن تعريفها بعدد الألياف العضليّة التي تتغذّى بعصب واحد. هذا العدد يختلف من عضلة إلى أخرى حسب موضعها ووظيفتها وسرعة الإستجابة المناطة بها.
يتراوح عدد الألياف العضليّة التي تتغذّى بعصب واحد من 1000 - 10,000 حسب العضلة كما ذكرت أعلاه. ففي عضلة بؤبؤ (صبي) العين مثلا تكون النسبة صغيرة جدّا (100 ليفة لكل عصب)، أمّا في عضلة الفخذ، فإنّ النسبة تكون أكبر ما يمكن (1:10,000)؛ وذلك بكل تأكيد يعتمد على قوّة الحركة وسرعتها كما ذكر أعلاه.
أيضاً.... فإنّ عدد الوحدات الحركيّة في كل عضلة يختلف من واحدة إلى أخرى حسب الطلب وحسب الوظيفة، وحسب سرعة وقوة الحركة. فالعضلات التي تحتاج إلى سرعة الحركة قد تحتاج إلى وحدات حركية قليلة، وتلك التي تحتاج إلى قوة شد أو ردة فعل كبيرة تحتاج إلى عدد أكبر من الوحدات الحركيّة. عدد الوحدات الحركية في عضلات الجسم يتراوح ما بين 100 - 2000 وحدة حركيّة، وهي تتوزّع بطريقة مبرمجة وغاية في الدقّة والإبداع، بحيث أنّه في حالة ضمور أحد الأعصاب المغذّية لبعض الوحدات الحركية، فإن الوحدات الحركية المتداخلة تقوم بتعويض النقص الحادث في ضعف العضلة نتيجة لضمور عصب ما مغذٍ لها.
هناك نوعان من العضلات يجب التنويه إليهما:
1- العضلات المحزّزة Striated Muscles مثل عضلة الساعد.
2- العضلات الناعمة Smooth Muscles مثل عضلة القلب.
العضلات المحزّزة لها قانونها ولها ميزاتها التي تختلف كثيراً عن العضلات الناعمة. فالعضلات المحزّزة تخضع لسيطرة الإرادة، وهي تتعب بسرعة، وتتميّز بالقوة والشدّة. في حين أن العضلات الناعمة كلّها لا تخضع لإرادة الإنسان (لا إراديّة)، وهي لا تتعب أبداً، وقوّة إنقباضها في العموم تعتبر غير قويّة بالمقارنة. هذا ما يجعل عضلة القلب مثلاً تنقبض وتنبسط مدى الحياة وبدون توقّف.... فسبحان من خلق فسوّى.
عضلات الجسم خلقها الله في أشكال مختلفة فمنها الطولية ومنها الدائرية ومنها المستطيلة ومنها المثلّثة، وكذلك فهي تختلف في الطول والعرض والسمك وطول وقصر الرباط العضلي، وكل هذه التشكيلات المختلفة تتناغم مع آماكن ومواضع وجود هذه العضلات بما يمكّن كل منها من القيام بمهامها المناطة بها كما يجب وبكل دقّة ومهنيّة. فعضلات الأيدي تختلف عن عضلات الأرجل، وعضلات العيون تختلف عن عضلات الرقبة، وعضلات الحوض تختلف عن عضلات الكتفين.... وهكذا دواليك.
العضلات أيضاً حسب مواقعها وطريقة ربطها بالعظام يكون بعضها باسطاً ويكون بعضها الآخر قابضاً. كما أن منها ما هو مقرّب(الرجلين مثلاً) ومنها ما هو مبعّد (الذراعين مثلاً). من العضلات ما هو تدويري(الكتف)، ومنها ما هو محوري-دائري(العيون)، ومنها ما هو قافل وفاتح بالتناوب وحسب الحاجة مثل عضلة المزمار في الحلق(البلع\التنفّس) والعضلة الدائريّة حول قاعدة المرئ لتمنع بإنقباضها تراجع السوائل الحامضيّة من المعدة إلى المرئ بما يسبب الكثير من الألام والحرقان في (فم الكبد كما نقول !). هناك أيضاً العضلات القابضة لفتحة المرارة، والمثانة وفتحة الشرج.
تتكوّن كل عضلة من مجموعة من الألياف يتحدد عددها حسب حجم العضلة والوظيفة التي تقوم بها. عدد الألياف العضليّة يتراوح بين عدة مئات إلى عدة ملايين، وهي تتجمّع في قوالب داخليّة تسمّى أحزمة أو ملازم Fascicles.
كل ملزمة عضليّة تتكوّن من عدد من الألياف قد تتجاوز عشرات الألاف في بعض العضلات، وكل عضلة تتكوّن من مجموعة من الملازم حسب حجمها ووظيفتها.
كل ليفة في العضلة تتكوّن من أعداد من اللييفات تصل إلى عشرات الآلاف في بعض العضلات....
وكل لييفة تتكوّن من مكوّنات أصغر تسمّى Actins & Myosins.
قوّة إنقباض العضلات هي بدورها تخضع لقانون محسوب ومعلوم ومبرمج. فقوّة إنقباض أية عضلة (محزّزة أو ناعمة) تعتمد على العوامل الآتية:
- عدد الوحدات الحركيّة المتفاعلة في نفس الوقت.
- عدد الذبذبات الكهربائيّة المرسلة في نفس الوقت.
- سرعة إنقباض ألياف العضلة في كل وحدة حركيّة.
- نوعيّة العضلات من حيث أنّها تنهك أو لا تنهك.
الموصّل العضلي-العصبي Myoneural Junction
العضلة لا يمكنها أن تشتغل بدون عصب موصّل، وهذا ربّما يذكّرنا بمصباح الكهرباء. فلا يمكن إشعال المصباح بدون أن يكون متصلاً بالكهرباء وبدون أن تكون الكهرباء تشتغل. دعوني هنا أن أعبر من خلال "التيار الكهربائي" لشرح الموضوع أكثر ولتيسير فهم الأليّة التي عن طريقها تشتغل عضلات أجسامنا.
كل شئ يفعله جسم الإنسان، وكل وظيفة يقوم بها تتم عن طريق "التيّار الكهربائي". لابدّ للإنسان الحي من أجل أن يقوم بآية وظيفة مهما كانت صغيرة من توفّر تيّار كهربائي له. حينما يموت الإنسان تنقطع عنه الكهرباء، وتتوقّف خلاياه عن إنتاج الكهرباء. بمعنى آخر... إن جسم الإنسان هو عبارة عن "مولّد كهربائي متنقّل"، وأولئك الذين تتوقّف قلوبهم عن النبض يتم صعقهم بشحنة كهربائيّة قد تتمكّن من حثّ عضلات القلب لكي تنتج كهرباء وبعدها تعتمد هذه العضلات على نفسها. لنتذكّر المثال المعروف.. حينما تستيقظ مبكّراً في يوم شتوي بارد وتذهب لتشغيل محرّك سيّارتك... إذا كانت بطارية السيارة قديمة فإنّك قد تحتاج إلى من يدفع لك السيارة قليلاً حتى يشتغل المحرّك وبعدها ينتج المحرّك طاقة كهربائيّة تمكّن العربة من الإستمرار ومواصلة الرحلة.
نعم.. قد نحتاج إلى تدوير عجلة مضخّة المياة بسرعة وذلك بإستخدام سلك طويل نجذبه بقوّة بما يمكّن محرّك المضخّة من الإشتغال وبعدها ينتج الكهرباء اللازمة لإستمراره في الدوران وإستمرار المضخّة بعد ذلك في العمل لسحب المياه.
خلايا جسم الإنسان من أجل أن تبدأ في إنتاج الكهرباء لابدّ من وخزها بأي شكل من الأشكال لتبدأ في إنتاج الطاقة. الوخزات قد تكون كيميائيّة أو حراريّة أو صوتيه أو ميكانيكيّة (حركيّة) أو كهرومغناطيسية أو ضوئيّة... المهم أنّه لإنتاج الطاقة في جسم الإنسان لابدّ من وجود واخز حسب المكان وحسب الزمان.
بمجرّد حدوث الوخز يبدأ "المولّد" في إنتاج الطاقة وفق هذه الآليّة:
وملخّص العمليّة هو أنّه خارج غشاء الخليّة - وأي خليّة في الجسم مهما كان نوعها - توجد كميات كبيرة من ملح الطعام Sodium Chloride ووجود الكلور يعني أن الملح متعادل ولا توجد به شحنات كهربائيّة. حين حدوث وخزة أو صعقة أو أي حادث فيزيائي للخليّة بما في ذلك أي إهتزاز بسيط، فإنّ ذلك يفصل الكلور عن الصوديوم ويخرج كل عنصر بشحنة موجبة (الصوديوم) وشحنة سالبة (الكلور)، بمعنى أن كلا العنصرين يصبحان مؤيّنين أي يحملان إشارة كهربائية، وهذا يعني بأنهما غير ثابتين ويعملان كل ما بوسعهما للبحث عن شحنة معاكسة لإحداث الإستقرار الكهربائي (بدون شحنة). إذا بقى كل من العنصرين منفصلاً عن الآخر فإنّ أي إتصال بينهما من قبل طرف ثالث ناقل للكهرباء قد يتسبب في توليد تيار كهربائي. هذه الحالة تسمى غياب الإستقطاب Depolarization ممّا يدفع الصوديوم المؤيّن (المشحون) ناحية غشاء الخلية باحثاً عن ثغرة صغيرة يعبر من خلالها إلى داخل الخليّة بفعل الضغط الأزموزي (الكميّة) وما إن يتسرّب الصوديوم إلى داخل الخليّة إلّا ويحدث إختلالاً كبيراً في التوازن الكهربائي ممّا يحفّز الحلية ويحوّلها من حالة إستقرار إلى حالة عدم إستقرار(هيجان).
في هذه الحالة، ونظراً لعدم وجود كلور كافي في داخل الخلية فإن الخلية تقوم بعمل سريع يخفّف من كمّية الإحتقان وذلك بإرسال ذرّات البوتاسيوم المحفّزة (نتيجة لتخلّيها عن الكلور الملاصق لها)، وهذه الذرّات تحمل نفس شحنة الصوديوم... ترسلها الخلية إلى خارج غشاء الخلية بهدف إحداث التوازن الكهربائي ومن ثمّ إستقرار الخليّة. بالطبع... كمية البوتاسيوم لا يمكنها أبداً معادلة ذرّات الصوديوم التي تسرّبت إلى داخل الخليّة، فتضطر الخليّة إلى إرسال ذرّات الكالسيوم المؤيّنة(تتأيّن وذلك بتخلّيها عن الكربونات السلبيّة) فتحمل كل ذرّة كالسيوم مؤيّنة شحنتين كهربائيّتين معها إلى خارج الخليّة وبذلك تتم معادلة الصوديوم المتسرّب داخل الخليّة، ومن ثمّ يتم التوازن بين داخل الخليّة وخارجها وهذا من شأنه أن يعيد الإستقطاب الكهربائي إلى حالة السكون Repolarization وذلك يسكّن الأمور ويهدّي التحفّز إلى أن يلغيه. بعد ذلك تعود كل الأملاح إلى وضعها الطبيعي وتتكرّر هذه العمليات ملايين المرّات من أجل إنتاج كمية كافية من الكهرباء بإمكانها أن تقبض العضلات فتقوم بالمهمّة كما يجب.
ذلك كان تلخيصاً شديداً لما يحدث بين داخل وخارج الخلية في كل مرّة يحاول أحدنا قبض عضلات يده أو رجله أو رقبته... وهكذا.
الآن... دعونا ننتقل إلى الأمام قليلاً وذلك بمعرفة ماذا سيحدث لتلك الكميّة المنتجة من الكهرباء فور إنتاجها وكيف يمكنها أن تصل إلى العضلة المقصودة بالحركة من أجل إنتاج الحركة؟.
دعونا نعود إلى "الموصّل العضلي-العصبي" لنراقب ماذا يحدث بعد إنتاج كميّة من الكهرباء:
هنا... ونتيجة لوخزة ما أو إرادة ما أو حدث ما يدفع العضلة لأن تنقبض. العامل الحاثّ الذي يدفع إلى توليد الكهرباء هو "كيميائي" عن طريق موصّل عصبي يسمّى آسيتيل كولين Acetyl Choline الذي يخزّن في كبسولات صغيرة جدّاً تسمّى Vesicles تتجمّع في نهاية العصب الحركي تكون جاهزة للتسرّب نحو العضلة ولا تنتظر إلّا وجود واخز معيّن. تقترب الكبسولات من جدار الليفة العضليّة المسمّى Sarcolemmal Membrane ، وما أن يحدث التلامس بين الإثنتين إلّا وتتولّد شرارة "الحب" بينما، وهذا بكل تأكيد يدفع بالصوديوم إلى داخل الخلية والبوتاسيوم والكالسيوم إلى خارجها وبعدها يتولّد تيّار كهربائي يؤدّي إلى إنقباض العضلة. يستمر الإنقباض على أشدّه طالما أن التلامس بين الأسيتايل كولين وغشاء الليفة العضلية متواصل (مثل تلك النظرة العميقة بين عيني العاشقين، فطالما إستمرت وبقوة طالما حدث الإرتعاش واللعثمة والتخبّل)، ولو إستمر الأمر كذلك لأكثر من اللازم فإن العضلة سوف تنتج ألماً إنقباضيّاً قد لا يكون مريحاً، غير أن الله في الوجود. يقوم الجسم بإفراز إنزيم مكسّر للآسيتايل كولين يسمى Acetyl-Cholinesterase Enzyme يقوم هذا الإنزيم بتعطيل الآسيتايل كولين ويعيد العضلة إلى حالة الإرتخاء.... وهكذا.
وفي ختام هذه الحلقة يطيب لي أن أضيف بأنّنا حينما نمشي على سطح الأرض نعرف بأنّه تجري من تحتنا الكثير من الأشياء، منها خطوط الهواتف، ومواسير المياه، وأنابيب الصرف الصحّي، وكذلك خطوط الوقود الغازي حسب المتوفّر وحسب رقي وتحضّر الدولة فقد تمدّد أشياء أخرى تحت سطح الأرض لتقديم الخدمات للناس.
ما يسير مع العضلات هو توصيلات مشابهة إلى حد كبير، منها الأعصاب الصغيرة(حسيّة وحركيّة)، ومنها أوعية دمويّة مغذّية(شرب) وأخرى منظّفة (مجاري)، كذلك هناك أوعية ليمفاويّة. تتواجد أيضاً من تحت الجلد مع العضلات عظام وغضاريف مفصلية وأربطة وسوائل مرطّبة وأغشية سميكة وضعيفة وأملاح ومعادن. كل تلك التركيبات الصغيرة الإضافيّة تقوم بمهام ثانوية لكنها مهمّة ولا يشعر الإنسان بالحاجة إليها إلّا عندما تختفي كما يحدث في حالات الأمراض والجفاف والتعرّض لبعض الأعراض الجويّة الغير ملائمة.
في الحلقة القادمة سوف يكون الحديث عن القوّة العصبيّة اللاإراديّة... أو ما يعرف بالأعصاب الوديّة ونظيراتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك