الحلقات السابقة: الفصل الأوّل 13 حلقة متكاملة. الفصل الثاني: الحلقة الأولى الحلقة الثانية الحلقة الثالثة
(الحلقة الرابعة)
دماغ الإنسان... الغوص في أعماق اليمّ
عندما
قمت من النوم هذا الصباح أخذت أفكّر في مقدّمة لحلقة اليوم من هذه السلسلة، وكان
التفكير بكل تأكيد عن شئ يتناسب وعظمة مخّ الإنسان من حيث التركيب والوظيفة. لقد أخذت منّي حلقة اليوم أكثر من 4 ساعات متواصلة من أجل توصيل هذه المعلومة لكم وأملي الوحيد هو أن تنال رضاكم، وتجدون في حناياها ما تستفيدون منه.
وحيث
انّنا مازلنا نجهل أكثر ممّا نعرف عن دماغ الإنسان برغم التقدّم الكبير في علوم
الحياة وعالم المخ على وجه التحديد، إلّا أنّنا برغم كل هذا التقدّم مازلنا نجهل
أكثر مما نعرف خاصّة فيما يتعلّق بوظيفة هذا الدماغ؛ والأهم والأكثر إثارة للتأمّل
والتصوّر والتدبّر هو "العقل". فدماغ الإنسان ليس بالضرورة هو عقله أو
لننظر إليها من زاوية أخرى ربّما تكون أيسر هضماً: قد نحيط بتفاصيل تركيبة المخّ
وأغلب وظائفه، لكنّنا إن رغبنا في الخوض في عالم العقل فإن ذلك سوف يدخل بنا إلى ساحات وفضاءات عميقة وسحيقة.
في
هذا الإطار وأنّا أسبح بخيالي في عالم المجهول برزت أمامي أربعة عوالم مازلنا لا
نعرف عنها إلّا النذر اليسير:
- عالم البحار والمحيطات العميق والشاسع.
- عالم الكون الرحب واللامتناهي.. على الأقل بحساباتنا.
- عالم المخفيّات: الروح، الملائكة، الجن، والشياطين.
- عالم الغيبيّات: القيامة، والجنّة، والنار.
وحينما
حاولت المقارنة بين هذه العوالم ومخّ انسان وجدت بأن عالم المحيطات ربّما يعتبر هو
الأقرب من جانب أنّنا نعرف الكثير، وبوسعنا معرفة المزيد، لكنّنا كلّما عرفنا أكثر
كلّما أحسسنا بأنّنا مازلنا في بداية الطريق.
وفي
سياق هذا التأمّل وهذه الحيرة تذكّرت قول الله تعالى: {الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ
تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير}، وذلك قوله
تعالى:{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}... صدق الله العظيم.
هنا
أدركت بأن الوقت قد أذن لي بأن أعود إلى ما يمكنني الحديث عنه وما يمكنني التفلسف
فيه إلى حد ما.. وهو دماغ الإنسان !.
في
الحلقة السابقة من هذه السلسلة تحدّثت عن تلك البلايين من العَصبَونات وأنواعها
وطريقة تواصلها مع بعض، وفي حلقة اليوم أريد أن أنتقل بكم ومعكم خطوة أخرى إلى
الأمام... أين تتجمّع تلك "العَصَبونات" وما هو المآل الذي تودّي إليه.
سوف تركّز حلقة اليوم على تركيبة الدماغ وأقسامة وفصوصه المختلفة مع التعرّض
لوظيفة كل فصّ على حده في الفصل الثالث بإذن الله.
دعوني
في البداية أن أدعوكم لمشاهدة هذا الفيديو المقتضب ففيه ربما روح ما أنوي التحدّث
عنه في هذه الحلقة:
http://www.bbc.co.uk/programmes/p02rwgjj ... كيف يبدو دماغنا من الداخل، هذا هو عنوان الفيديو ؟
في الحلقة ما قبل السابقة تحدّثت عن بعض من ملامح الرحلة
من الشاطئ إلى عمق المحيط... من الجلد إلى "التلفيف المركزي الخلفي" وهو
كما نعرف متخصّص في الإستقبالات الحسّية من جميع أطراف الجسم الخارجيّة(الجلد)
والداخليّة(الأحشاء):
وهناك يتم التواصل ما بين تلك الملايين من "العصبونات الحسّية" مع نظيراتها "العصبونات الحركيّة" الواقعة أمام الشق أو التلم المركزي Central Sulcus بين
قسم الإستخبارات والتحرّي وقسم النجدة والإنقاذ المتكوّن أعضائه من مئات الملايين
من العصبونات الحركيّة المتجمّعة (مقرّها) في "التلفيف المركزي الأمامي"
أو ما يعرف ب Pre-Central Gyrus.
وهنا أرى بأن الوقت قد حان لآن نرى الدماغ الشامل
(البانورامي) ثمّ بعد ذلك نعود معاً لزيارة مقر القيادة المركزيّة "قسم النجدة والإنقاذ".
لنلقي نظرة أخرى على المحيط من الخارج حتى نعرف حدوده
وملامحه وتضاريسه الظاهريّة ثم بعد ذلك ندخل إلى أعماقه من جديد من خلال شواطئه
هذه المرّة.
دماغ الإنسان
يبلغ وزن الدماغ عند الرجل البالغ ما بين 1300 – 1400 جرام
وهو يعادل فقط ما مقداره 2% من وزن جسمه، في حين يكون أصغر عند المرآة بمقدار 11 -
12% منه عند الرجل في المتوسّط. يكون وزن الطفل حينما يولد ما بين 350 – 400 جرام
فقط، ويبلغ دماغ الإنسان تكامله من حيث عدد التركيبات العصبيّة والأوعية في عمر 4
سنوات، لكن تطوّر الدماغ من حيث الحجم والوظيفة يستمر بدون هواده حتى عمر ال19 سنة أو حولها. وزن وحجم الدماغ بكل تأكيد يتناسبان مع وزن الجسم وعمر الإنسان حتى سن
الأربعين، حيث يبدأ الدماغ في النقص التدريجي في الحجم بحيث ينقص وزن الدماغ بمقدار ربع وزنه في
عمر 75 سنة.
من المعروف علميّاً بأنّ وزن الدماغ أو حجمه ليس له
علاقة مباشرة بمعدّل الذكاء أو المقدرة على فعل الأشياء، فمثلاً يبلغ وزن دماغ
الفيل 6000 جرام، في حين يبلغ وزن دماغ القطّة 30 جرام، ودماغ السمكة الذهبيّة
0.097 جرام فقط، ويبلغ وزن دماغ الحمار 419 جرام !.
كما سبق ذكره في الحلقة السابقة، يبلغ عدد العصبونات Neurons في
دماغ الإنسان 100 بليون عصبونة، ويبلغ عددها في دماغ الأخطبوط 500 مليون فقط،
يتوزّع أكثر من ثلثيها في أطراف جسمه المتعدّدة.
معدّل الذكاء عند الإنسان يتحدّد بعدد العصبونات الفاعلة
في لحظة التفكير أو التصرّف، ومقدرة الإنسان على تفعيل أكبر عدد من عصبوناته تحدّد
مقدار ذكائه ومقدرته على الفعل والتفاعل.
يبلغ عمق الدماغ(من السطح إلى أعمق نقطة) 14
سنتيمتر، ويبلغ طوله في المتوسّط 16.7 سنتيمتر، وإرتفاعه 9.3 سنتيمتر. وتبلغ مساحة
الدماغ في المتوسّط ربع متر مربّع، وتبلغ مساحة قشرة الدماغ الرماديّة لو أنّنا
أفردناها كاملة حوالي 25 متر مربّع وهو ما يعادل حجم غرفة النوم.
يتكوّن الدماغ كما يعرف الكثيرون منكم من أربعة فصوص
تعرف ب Lobes، وهي:
- الفصّ الأمامي: وهذا الفصّ يعتبر من أكبر الفصوص جميعاً، ويوجد منه فصّ على كل جانب من جانبي الدماغ. ولو جمعنا الفصّين (الأيمن والأيسر) مع بعض فإنّنا ربما نكتشف بأن حجم الفصّين الأماميين يكاد يكون بحجم نصف الدماغ كلّه. ولما لا، فوظيفة هذين الفصّين تتمحور حول شخصيّة الإنسان وتركيبته النفسية (السيكولوجيّة).
- الفص الصدغي: وهو رغم صغر حجمه إلّا أنّه يعتبر المسئول الرئيسي عن ذكاء الإنسان، ويساهم مع الفص الأمامي في تكوين شخصية الإنسان ويتحكّم في تصرّفاته.
- الفص الجداري: وهو يعتبر صغيراً نسبيّاً، لكنّه ربّما يحتوي على قدر كبير من عصبونات وألياف الحركة بالنسبة للجسم.
- الفص القفوي: وهو يعتبر من أصغر الفصوص الأربعة، وهو يتحكّم في الرؤية من حيث الحدّة والوضوح والمعالم.
وسوف أتحدّث عن وظائف هذه الفصوص في الفصل الثالث نظراً لمساهمتها في أهمية وجدليّة النقاش حينها.
المادّة الرماديّة
ولندخل الآن تدريجيّاً في العمق مرّة أخرى، ونبدأ بالقشرة.
قشرة الدماغ تتكوّن في الأساس من العصبونات Neurons، والتي يبلغ عددها حوال
100 بليون عصبونة بمركّباتها المختلفة والتي ذكرت في الحلقة السابقة، وهذا العدد
الهائل من الخلايا وأطرافها المتشعّبة تتوزّع في مساحة سطحيّة تقل عن ربع متر
مربّع وسمك هذه القشرة لا يزيد عن 0.4 سنتيمتر أي 4 ملليمترات فقط.... فكيف يمكن
زرع كل هذه الخلايا في هذه المساحة الصغيرة بدون أن يحدث بينها تزاحم وإحتقان؟. ثم،
لماذا تبدو قشرة الدماغ داكنة اللون، ولماذا تسمّى "المادّة الرمادية"
رغم ورديتها بالنظر إليها؟.
لو أنّنا قمنا
بفرد فشرة الدماغ ومطّطناها على كبر وسعها، فإنّها سوف تشابه بساطاً مفروشاً في حجرة
الضيافة، او حجرة النوم العائليّة.. أي ما يقارب 25 متر مربّع !. كيف يتأنّى لأي
منّا أن يضع ذلك البساط في سيارته الصغيرة ويحمله للغسيل في ماكينة الغسل في وسط
المدينة؟!. الشاطر بكل تأكيد يقوم بثني البساط حتى يصبح حجمه صغيراً بما يسمح
بوضعه في صندوق السيارة الخلفي !.
ذلك هو ما يحث تماماً في داخل الدماغ. لقد تم ثني القشرة
الرماديّة في عدة طيّات Folds إنقسمت إلى أتلام Sulci وتلافيف Gyrie يحدّد
عددها مساحة المادّة الرمادية ومساحة المادة الرمادية تحدد عدد العصبونات المنزرعة فيها، وتلك تحدد مقدار ومعدّل الذكاء للشخص... أي أن عدد التلافيف في دماغك يحدد ربما
مقدار ذكاءك ومقدرتك الذهنيّة !.
القشرة الرمادية هي رماديّة لكثرة عدد النوى بها
(نوى الخلايا العصبيّة) وهذه النوى تتميّز بشيئين: كبر حجمها ودكونة لونها نظراً
لتركّز مادة الكروماتين الخضراء\البنّية بداخلها. وحيث أنّنا نتحدّث هنا عن ما
يقارب 100 بليون نواة... يمكنكم تصوّر كثافة اللون !.
من هنا يمكن القول بأن المادّة الرمادية هي في واقع
الأمر المسئولة عن ذكاء وتفكير الإنسان، وهي المسئولة عن الكثير من الوظائف القشريّة(قشرة
الدماغ) والتي إن أصابها عطل فإنّها قد تؤدّي إلى مثل هذه الحالات:
- الخبل أو العته Dementia من بينها مرض ألزهايمر.
- الصرع.
- صعوبة النطق وإنحسار الكلام Dysphasia
- صعوبة البلع المركزيّة Dysphagia.
- الضياع والتيه في المكان والزمان Disorientations.
ومن هنا تكمن أهمّية المادة الرمادية بإعتبار أنّها في
واقع الأمر هي مولّد الكهرباء في دماغ الإنسان، ويمكنكم تصوّر دولة بدون كهرباء !.
المزيد من الحديث عن المادّة الرماديّة ووظائفها سوف يأتي في الفصل الثالث من هذه السلسلة
حيت سوف تتم مناقشة وظائف جسم الإنسان وربطها بموضوع هذه السلسلة بكاملها وهو
السحر والجن والشيطان وبقية المعتقدات.
المادّة البيضاء
المادّة البيضاء تشكّل أكثر من 95% من وزن الدماغ، وهي
تتكون في الأساس من الألياف العصبيّة المغشّاة بالنسيح الدهني Myelin، وتمتاز هذه الألياف بسرعة توصيلها للتيار الكهربائي وفعاليتها في جودة توصيل المادّة المرسلة
إليها من المادّة الرماديّة بكل دقّة وتفاصيل. هذه الألياف يمكن تشبيهها Fiber optic Communications في عالم الإتصالات الذي نعرفه مثل موجات الإنترنت العريضة Broadband.
المادة البيضاء هي في واقع الأمر ليست بيضاء بل هي صفراء
باهتة، وهي لا تمثل فقط الألياف العصبيّة، بل إنها تحتوي على الكثير من الجزر
الرماديّة والتي من بينها العقد القاعديّة Basal Ganglia والتي سوف تناقش في حلقات قادمة بإذن
الله نظراً لأهميتها القصوى. هناك الكثير من الجزر الرمادية الأخرى مثل غدّة
المهاد Thalamus وغدّة تحت المهاد Hypothalamus، والنواة الحمراء Red Nuclus،
وغيرها.
الألياف البيضاء أيضاً تكون من بين مصادرها الأعصاب
الجمجميّة أو القحفيّة Cranial Nerves، وتتجمّع أغلبها في قاعدة المخ المسمّاة جذع
المخ Brain Stem والتي في أسفله وتحت منطقة البصّلة
أو ما يعرف بالنخاع المستطيل Medulla Oblongata تتقاطع كل إلى الجانب الآخر بعد أن تتشكّل في هيئة ثلاثيّة السطوح لتكوّن فيما بينها ما يعرف بالحزمة الهرميّة Pyramidal Tracts على
الجانبين وتعبر بعد ذلك من برزخ في قاعدة الجمجمة وفي أعلى الرقبة يسمّى الثقبة
العظمى Foramen Magnum.
من هناك يبتدئ الحبل (النخاع) الشوكي والذي من جسمه تتكون
الألياف العصبيّة الطرفيّة، وذلك هو موضوع الحلقة القادمة بإذن الله.
ونحن نشرع في
رحلة الخروج نحو الشاطي من جديد، ولكن هذه المرّة صحبة الألياف العصبيّة الحركيّة
والتي سوف تؤدّي بنا نحو الألياف العضليّة Muscular Fibers ليبدأ الجهاز العضلي Myology والذي سوف أفرد له
حلقة تامّة لأهمّيته ولمجموعة من الأمراض تعتريه تكون سبباً في عجز الإنسان
وتخلّفه عن مواكبة الحياة كما يجب وما لذلك من تأثيرات عمليّة(حياتية)، ونفسيّة
.... وإجتماعية أيضاً.
في ختام حلقة اليوم
وقد تمكّنت من إخراجكم من عمق المحيط بسلام في الطريق نحو شاطئ الأمان بإذن الله،
دعوني أعود لأشبّه عملية العبور بين المخ والحبل الشوكي من خلال الثقب المستطيل في
أعلى العنق بذلك الإختناق (البرزخ) قبالة جبل طارق حينما تعبر من المحيط الأطلسي(الدماغ)
ناحية البحر المتوسّط(الحبل الشوكي).
بارك الله فيك ولك على هذا الموضوع والمجهود الرائع
ردحذف