الذي لا يتدبّر أموره ولا ينتبه إلى أخطائه يجد نفسه في نهاية الأمر يدفع ثمناً كان بوسعه تجنّبه. الحياة ليس لها إلاّ وأن تسير إلى الأمام، وعلينا بأن نكون جزءاً منها نتفاعل معها وفق معطياتها ونسير معها حسب أبجدياتها مع تذكّر ترك بصماتنا على أحداثها.
الرجاء مشاهدة هذا الفيديو: ما وصلنا إليه هو من صنع أيدينا
قد نتذكّر مواقف اليهود مع نبي الله عليه السلام، وقد نتذكّر الحروب الصليبيّة، وقد نتذكّر فترة الإستعمار الأوروبّي لبلداننا العربيّة والإسلاميّة؛ ولكن كل ذلك كان عداء واضحاً (سافراً)، وكل ذلك كان عبارة عن صراع بين الأقوام والثقافات إتخذ أشكالاً مختلفة غير أنّه في نهاية المطاف كان صراعاً علنيّاً وتنافساً إرتكز على خواص وأفضليات كما ظنّها من آمن بها.
من الأسهل أن يقف أمامك عدوّك ويحاربك في وضح النهار، فهو إمّا أن يكون أقوى منك فيهزمك ويفرض إرادته عليك، أو أنّك تتفوّق عليه فتهزمه وتدحره وترسله بعيداً أو تنتقم منه مكافياً إيّاه على ظلمه لك.
الذي نعاني منه اليوم في بلادنا العربية والإسلامية هو واقع مختلف، وهو بكل تأكيد يعتبر حرباً من نوع جديد. لقد تعلّم أعداؤنا من أخطائهم السابقة، وعرفوا بأن المواجهة المباشرة سوف تكون لها نهاية حتميّة واحدة وهي "هزيمتهم". فالإنسان مهما كان أصله أو لونه أو إعتقاده، هو من طبعه باحث عن الحريّة ومنتصر لها لأنّها من خواص البشر... أو ربما هي من طبيعة الأشياء.
أنا أتحدّث هنا عن قيام غيرك بمحاربتك بسلاحك... بثقافتك... بدينك، وبأخطائك. تلك هي المعركة الوحيدة التي تخسرها إن أنت لم تنتبه إلى أخطائك وتعمل على إصلاحها.
بعد إنتهاء الإستعمار الحديث لبلادنا العربيّة والإسلاميّة كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية أو كنتيجة لجهاد الأجداد ضد ذلك الإستعمار، بدأت بلادنا العربيّة على وجه التحديد في بناء كياناتها كدول مستقلّة بحيث كان تركيز الحكّام فيها على خلق حياة كريمة للمواطن والمحافظة على كيان وإستقلال الدولة بعد تحريرها كنوع من السيادة والشخصيّة والكينونة.
حكمت معظم البلاد العربيّة بأنظمة حكم وطنيّة وتحرّرية كانت في معظمها علمانية التفكير وطنيّة الجوهر تقدمية المسار، وبالفعل تمكّنت الكثير من البلاد العربية من تحقيق الكثير من التقدّم لشعوبها. فعلى سبيل المثال تمكّنت مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من تحقيق الكثير للشعب المصري من حيث مستلزمات الحياة ومتطلبات المواطن في العيش الكريم بما في ذلك خدمات صحية وتعليمية وإجتماعيّة، وفوق كل ذلك تمكّنت مصر من بناء الجامعات والكثير من المصانع مثل شركات نصر للآليّات ومصانع النسيج، وكذلك مشاريع الإنماء مثل السد العالي وتأميم قناة السويس. كذلك فإن مصر تمكّنت من بناء إرث حضاري كبير تمثّل في الأدب والثقافة والسينما والمسرح والموسيقى والغناء وبقيّة صنوف التنوّع في حياة البشر.
لم تكن مصر وحدها من نجح في تحقيق الرخاء والإرتياح للإنسان، فقد فلحت تونس في عهد الرئيس الراحل الحبيب أبورقيبة في تحقيق الكثير لشعبها، وكذلك فعلت الجزائر، والعراق، وسوريا، ثم لحقت بها بعد ما يقارب من عقدين من الزمان كل دول الخليج العربيّة وربما المغرب أيضاً.
إن أهم ما ميّز فترة الخمسينات وحتى بدايات السبعينات هو ترسّخ الفكر التحرّري والحس الوطني لدى المواطن العربي بعد فترة طويلة من الإحتلال ومحاولات جديّة لطمس الهويّة العربية والإسلامية من قبل المستعمر لعل الجزائر تعكس المثال الأوضح في هذا الإطار. كذلك فإن تلك الفترة تميّزت بالأمن والطأنينة وحرية التعبّد والإعتقاد مع الكثير من حريّة التفكير وحرية الإبداع والحريّات الشخصية. كذلك فقد تميّزت فترة الخمسينات وحتى السبعينات بغياب التشدّد في الدين حينما كان الدين ينظر إليه على أنّه علاقة بين الإنسان وربّه وهو حريّة شخصيّة، وبذلك فقد كانت المجتمعات العربية متديّنة وملتزمة بدينها لكنّها لم تكن متشدّدة أو مغالية أو متعصّبة. عمّت البلاد العربية في تلك الفترة مرحلة يمكن تسميتها بالذهبيّة برغم ضعف الممارسة الديموقراطيّة في معظم البلاد العربية عدا لبنان وربما تونس إلى حد ما. كذلك فإن معظم البلاد العربية كانت تنعم بالأمان والطمأنينة الإستقرار في تلك الفترة.
تعرضت البلاد العربيّة في تلك الآونة إلى الكثير من المماحكات الكبيرة خاصة فيما يتعلّق بقضية فلسطين، وبالفعل خسر العرب حرب 1967 وكذلك من الناحية الواقعية حرب 1973، لكن الإحساس الوطني كان في أوجه حتى في وقت الهزيمة في الحرب. كذلك فإن التضامن العربي كان حيّاً وفاعلاً ومتماسكاً بشكل يفوق الوصف ولو أطنبنا في ذلك.
كان العامل الوطني والتفكير التحرّري العصري هو سمة تلك الحقبة من الزمن ممّا مكّن المواطن من تعويض الكثير ممّا إفتقده أثناء فترة الإستعمار، فإلتحق الرجل والمرأة بوسائل التعليم وأبدع بالفعل المواطن العربي في الكثير من المجالات الحياتية المختلفة.
بعيد هزيمة 1967 وما تبعها من الإحساس بالإنكسار، بدأت قبضة الحركة الوطنية تضعف شيئاً فشيئاً، وأخذت الحركات الدينيّة تتنامى تدريجيّاً في الكثير من البلاد العربيّة حيث إستغل رجال الدين هزيمة 1967 فهاجموا الفكر الوطني بكل قوّة وعنف وصل إلى حد الحنق والكراهيّة وذلك بأن أطلقوا عليه "الفكر العلماني" ونعته الكثيرون منهم ب"الكافر" معتبرين إيّاه سبباً مباشراً في كل هزائم العرب، عارضين في نفس الوقت "التمسّك بالدين" على طريقتهم المتشدّدة كبديل للفكر التحرّري مستغلّين بذلك إحساس المواطن العربي بالهزيمة والإنكسار بحيث وجدت هذه الدعوات قبولاّ واسعاً في الشارع العربي، وبذلك بدأت الحركات الدينيّة المتشدّدة تظهر بوضوح وأمام العلن مثل الحركة الوهابيّة، وتلك الحركات الدينيّة التي كانت تدعو للإطاحة بالأنظمة "العلمانيّة" ومن بين تلك الحركات الدينيّة حركة الإخوان المسلمون، وحزب التحرير، وحركة النهضة وغيرها.
بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في عام 1970 أخذ الفكر القومي (الوطني) ينحسر تدريجياً وتبعه كذلك الفكر القومي في العراق وسوريا واليمن والسودان لتحل محله المدارس الدينيّة المختلفة والتي كانت في أغلبها متشدّدة، لكنّها برغم تشدّدها وغرابتها أحياناً فقد إجتذبت عقول وتفكير الكثيرين في البلاد العربية بما فيها مصر نفسها. شجّع الرئيس الراحل أنور السادات تلك الحركات الدينية على الخروج في العلن بل إنّه باركها خاصة بعد سعيه الحثيث للمساعدات من السعودية وبقية دول الخليج إثر حب 1973؛ ولم تكن تلك المساعدات مجانية، بل إنها كانت على حساب فتح المجال واسعاً أمام الحركة الوهابية كي تخرج من مخابئها حيث كانت تخاف من محاربة عبد الناصر لها، وكذلك بالطبع خروج حركة الإخوان المسلمون على العلن لتعود إلى نشاطاتها الدينية والإجتماعية والسياسية بدون مراقبة أو تقنين.
بعد تلك "الحريّة" التي تنعّمت بها التنظيمات الدينيّة بما فيها المتشدّدة مثل حزب التحرير، خرجت علينا في البدء حركة "الطالبان" المتشدّدة في عام 1994 على إثر سقوط الجمهورية الديموقراطية الأفغانية والتي كانت مدعومة من قبل الإتحاد السوفييتي في عام 1992 مما أدّى إلى تردّي الأوضاع الأمنيّة والإقتصاديّة في أفغانستان، فشاع قانون الغاب بين القوى الأفغانية المتناحرة وقتها.
ففي ربيع عام 1994، شاع خبر إختطاف وإغتصاب فتاتين عند إحدى نقاط السيطرة التابعة لإحدى الفئات الأفغانية المتناحرة في قرية "سانج هيسار" قرب مدينة قندهار، ونما إلى الملّا "محمد عمر" خبر إختطاف الفتاتين فألّف قوّة من 30 رجل وسعي بهم لتخليص الفتاتين، وقد نجح بالفعل في عملية التخليص وقام بدوره بتعليق قائد عملية الخطف والاغتصاب على حبل المشنقة.
منذ ذلك التاريخ رأى الأمريكان في حركة الطالبان قوّة يمكن بها قهر الإتحاد السوفييتي في أفغانستان، فدربت أعضائها وسلّحتهم بكل أنواع الأسلحة الهجوميّة وأغدقت عليهم بالأموال وتمكّنت أمريكا عن طريقهم من هزيمة قوّات الإتحاد السوفييتي في أفغانستان ومن ثمّ طردهم من كل أفغانستان.
سيطرت حركة الطالبان على معظم أرجاء أفغانستان، وشرعت بالفعل في حكم تلك الدولة من حينها مطبقة نمطاً من الشريعة الإسلاميّة كما كانت تتصوّرها حركة طالبان المتشدّدة. إستمر الصراع على أشدّه في أفغانستان بعد ذلك بين القوى التحرّريّة (العلمانيّة) وبين حركة طالبان بمعاونة أمريكيّة، ممّا جذب المقاتلين من بلاد أخرى لمستنقع الصراع في أفغانستان، وكان أن دخل المجاهدون "العرب" إلى أفغانستان للحرب إلى جانب الطالبان، وتم تحقيق ذلك عن طريق تنظيم "القاعدة".
تنظيم القاعدة أو قاعدة الجهاد، هي منظمة وحركة متعددة الجنسيات "سنيّة" إسلامية أصولية(سلفيّة، وهابيّة)، تأسّست في الفترة بين أغسطس 1988 وأواخر 1989، وهي تدعو إلى "الجهاد" الدولي.
تبنّت الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا الغربيّة التنظيمات المتشدّدة في أفغانستان من أمثال الطالبان والقاعدة، وساهمت بشكل كبير في تدريب وتسليح وتمويل هذه التنظيمات الدينيّة المتشدّدة بهدف محاربة الإتحاد السوفييتي في البداية، ولكن مع تفكّك الإتحاد السوفييتي في عام 1991 لم يبقى أمام تلك التنظيمات الإسلاميّة المتشدّدة كثيراً لتقوم به خاصّة وبعد إستيلاء الطالبان على معظم أفغانستان ممّا صعب الوضع أمام "المجاهدون العرب" فلم يبقى أمامهم غير مهاجمة ربّ نعمتهم ومعينهم الولايات المتحدة فكانت هجمات 11 سبتمبر في عام 2011، وما تبعها من قيام الحكومة الأمريكية بالإنتقام من صنيعتها التي غدرت بها وذلك بشن ما سمّي وقتها ب"الحرب على الإرهاب" والتي بدأت كما نعرف في أفغانستان.
بعد محاربتها في أفغانستان، لم يجد تنظيم القاعدة بدّاً من الخروج التدريجي من أفغانستان وتحقق ذلك بتأسيس فروع لهذا التنظيم "الجهادي" في الكثير من البلاد العربيّة بهدف الإطاحة بأنظمة حكمها "العلمانيّة" الكافرة. ونظراً للإختلاف في تفسير الدين بين هذه التنظيمات المتشدّدة، بدأت هي بدورها تتقاتل فيما بينها مما فتح الطريق نحو تأسيس تنطيمات دينيّة مشابهة مثل داعش والنصرة وتنظيم الشريعة وبوكو حرام وغيرها من التنظيمات الدينيّة المتشدّدة والتي يتجاوز عددها هذه الأيّام المئات وهي منتشرة في كل بقاع العالم، لكنها تتركّز في البلاد العربيّة والإسلاميّة حتى أنّها كانت السبب في إشعال حروب وإقتتالات في 14 بلداً عربيّاً وإسلاميّاً من بينها ليبيا في العام الماضي وحده.
وهكذا نرى بأن الولايات المتحدة كانت قد تبنّت الطالبان ثم تنظيم القاعدة بهدف محاربة الإتحاد السوفييتي في البداية، ولكن حينما أيقنت الولايات المتحدة بأن المهمّة كانت قد إنتهت، وحينما تحوّلت الولايات المتحدة ومن بعدها أوروبا الغربيّة إلى إهداف لتلك التنظيمات المتشدّدة لم تجد أمريكا بدّاً من التفكير في الإستفادة من هذه التنظيمات التي أصبحت في نظر أمريكا بمثابة تنظيمات إرهابية من الصعب التحكّم في المنتمين إليها كانت البلاد العربية هي الوجهة المقبلة لهذه التنظيمات فسهّلت الهجرة أمامها إلى البلاد العربية بعد التنسيق بينها وبين تنظيمات شبيهة في البلاد العربيّة والإسلاميّة خاصة بعد توفّر الوسط الحاضن لهذه التنظيمات بعد ثورات "الربيع العربي" فتم الدفع بكل تلك التنظيمات الإرهابية إلى البلاد العربيّة في تونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن والصومال، وقد تكون بلاد الخليج العربيّة هي الوجهات القادمة لهذه التنظيمات التدميريّة والتي ترفض جميع أنواع التحضّر والعصرنة، فقد تستفيد منها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إن هي أحسّت بمنافسة إقتصادية كبيرة من دول الخليج العربية وخاصة دولة الإمارات. التنظيمات الإرهابية هذه سوف تكون أخطر من آفة الجراد على الإمارات العربية المتحدة، وقد تحوّل تلك الدولة الناجحة جداً في مجال التجارة والخدمات إلى حطام في غضون عدّة آسابيع كما فعلت في سوريا وليبيا واليمن على وجه الخصوص لو أننا تغافلنا الصومال بطبيعة الحال.
تنظيم القاعدة وتنظيم داعش من بعده برهنوا على أنّهم على إستعداد للإساءة إلى الدين الإسلامي بسلاح الدين نفسه، وبذلك فقد حقق هذان التنظيمات حلم اليهود طويل المدى والذي يهدف إلى تدمير الإسلام بطريقة ذكية جدّا، وقد تشابه هذه العمليّة فكرة توطين حشرات قاتلة للحشرات الضارة بالزراعة حتى تقتل الحشرات بعضها وتسلم الزراعة !.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك