في عهد الطاغية القذّافي كانت الحياة من حيث الأمن والمعيشة رائعة في ليبيا، وكان التعليم يسير كما يجب، وكانت جميع مرافق الحياة تسير مثل أية دولة عصرية. كانت هناك طرق، وسيّارات، ومرور، وأمن، ومستشفيات، وأسواق، وبشر يذهبون إلى أعمالهم.
كان هناك في ليبيا وقود وكهرباء، وكان هناك توفّراً لكل السلع الغذائيّة والتموينيّة، وكانت الحياة في ليبيا تسير طبيعيّة على الأقل من الناحية الظاهريّة.
كانت جميع مطارات ليبيا تشتغل بكامل طاقاتها، وكان أمن المطارات في ليبيا يتفوّق عليه في أية دولة مجاورة، بل على العكس لم يتم إختطاف أية طائرة ليبيّة أو العبث بأمن أي مطار في ليبيا. كانت موانئ تصدير النفط تتمتّع بأمن فائق، وكانت الموانئ التجاريّة تقوم بعملها كما يجب. كانت السفارات الأجنبية في ليبيا تعمل بكامل طاقاتها وكانت تتمتّع بالأمن الكامل لها ولكل موظّفيها.
كان الأمن يسود كل مناطق ليبيا، وكان في بلادنا من سابع المستحيلات أن يفكّر أحد بتفجير سيارة مفخّخة أو تفجير خزّان وقود واحد. مصارف ليبيا كانت تتمتّع بالحماية الكاملة، ولم تتم سرقة أي مصرف من مصارف ليبيا في عمليات سطو أو أي نوع من أنواع السرقات الأخرى اللهمّ إلاّ أن يدخل ذلك في باب "الفساد الإداري" وليس في باب الجرائم التي تشهدها بلادنا الآن.
من هذا الوصف يمكن القول بأن ليبيا كانت تعتبر دولة بكل المعايير، وليبيا كانت لها سيادة مصانة ومحترمة ولم يكن حينها بوسع أي كان بأن يعبث بسيادة البلد.... لماذا إذاً قام الليبيّون بتغيير ذلك النظام القائم؟.
سؤال يحتاج الآن إلى إعادة النظر والطرح للمناقشة الجديّة؟. لماذا قام الليبيّون بتغيير نظام حكم أمّن بلادهم وأمّن قوت يومهم لأكثر من 42 سنة؟.
الإجابة الوحيدة على كل تلك الأسئلة هي: رغبة الشعب في التحرّر من الطغيان.
إذاً... كان يحكم ليبيا طاغية إحتكر الحكم لنفسه وعمل على توريثه لأبنائه، ومن ثمّ فقد قام الشعب بالثورة عليه من أجل التخلّص من العبوديّة والطغيان.
حينما يتخلّص الإنسان من الطغيان فإنّه بكل تأكيد لا يسعى لخلق طغيان جديد محلّه، وهذه هي سنّة الحياة، وذلك هو منطق الأشياء.
هل نحن بالفعل ثرنا على الطغيان من أجل التحرّر؟
هذا سؤال من وجهة نظري يعتبر غاية في الأهميّة وعلينا كليبيّين وليبيّات البحث الجدّي عن إجابة له. هل كانت ثورة 17 فبراير هي من أجل حريّة الإنسان في ليبيا بما تحمل تلك الحرية للمواطن في بلادنا من معاني بما في ذلك توفير الأمن والعيش الكريم؟.
هل كانت لثورة 17 فبراير أهدافاً معيّنة أبعد من القضاء على العقيد معمّر القذّافي وتغيير نظام حكمه؟.
الإجابة على هذا السؤال أراها واضحة ويقينيّة ولا تحتمل الكثير من التأويل أو التفسير. ثورة 17 فبراير كانت ثورة "تلقائيّة" قام بها مجموعة من الشباب الليبي (من الذكور والإناث) ومن ثم فلم تكن لها أهدافاً مبرمجة، ولم تكن لها برامج مدوّنة، ولم تكن لها خططاً مسطّرة. ثورة 17 فبراير في عقول الشباب الذين قاموا بها كان لها هدفاً واحدا - ولا غير - وهو: إنهاء نظام حكم العقيد معمّر القذّافي، وما بعد ذلك فقد ترك "فارغاً".
الثورة كانت "تلقائيّة" قام بها الشباب ولم تقم بها "النخب". ثورة 17 فبراير قام بها الشباب ولم تدر عليها أية جهة تنظيميّة بما في ذلك الجماعة الليبيّة المقاتلة، أو التنظيمات الدينيّة بجميع أشكالها، أو تنظيم الإخوان المسلمون، أو أي من التنظيمات التحرّرية الأخرى.
وحيث أن ثورة 17 فبراير كانت كذلك، فلم تكن لها أهدافاً ولم يكن لها برامج عمل، ولم يكن تأسيس دولة عصريّة من بين غاياتها. لقد كان هدف الثورة الوحيد هو: إسقاط نظام حكم الطاغية معمّر القذّافي.
ثورة 17 فبراير عام 2011 في ليبيا كانت مثل أن يقوم شخص ما بتهديم بيته لأنّه لم يعجبه، لكنّه لم يفكّر في كيفيّة بناء بيتاً محلّه، أو حتى في حيثيّة: أين سوف يسكن بعد تهديم بيته.
كانت هناك الكثير من التنظيمات الليبيّة المؤدلجة متواجدة في آماكن مختلفة خارج البلاد وكانت يتواجد لكل منها أنصاره في داخل ليبيا، لكنّ تلك التنظيمات لم تكن تمتلك ذلك الطموح الذي يحلم بإسقاط نظام حكم الطاغية القذّافي على إعتبار أنّه "من الصعب إسقاطه"، ومن ثمّ فقد عملت أغلب تلك التنظيمات على "التعايش معه" مع معرفتها بكم كراهيّته لها وعدم إعترافه بها، لكنّها لم تكن حينها تمتلك أية خيارات أخرى. تلك التنظيمات لم يكن لديها أي بعد نظر وقتها، ولم يحلم أي منها بالقدرة على إسقاط نظام حكم كانت كلّها تظن بأنّه "من المستحيل" إسقاطه، خاصة بعد محاولات الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا الفاشلة في ذلك المسعى، ومحاولات ضبّاط الجيش المتكرّرة للإنقلاب على نظام العقيد معمر القذّافي والتي باءت كلّها بالفشل الذريع.
بعد ثورة "البوعزيزي" في تونس، وبعد الثورة المصريّة تولّد لدى الشباب في ليبيا أمل جوهره أنّه من الممكن أن يحدث في ليبيا مثل ما حدث في جارتيها، ومن ثمّ ترسّخ ذلك الإحساس في عقول بعض الشباب الذين كانوا يعيشون "بلا أمل" وقتها... كان الكثير منهم من العاطلين عن العمل، ومن "اليائسين" من تحسّن الأحوال في ليبيا. كان أغلب من خرج يوم 17 فبراير عام 2011 من "القانطين" والذين لا يوجد لديهم الكثير ممّا قد يفقدونه.
بعيد خروج الشباب للشوارع في بنغازي وطرابلس بدأت "التنظيمات" المؤدلجة تستعيد "الأمل" من جديد، وبذلك فقد وجدت فرصتها لركوب الموجه.... وبالفعل فعلت.
عادت الجماعات الدينيّة المتطرّفة إلى ليبيا من منافيها في أفغانستان والعراق والصومال والسعودية وغرب أوروبا وشمال أمريكا لتقف خلف الشباب الثائر تراقب ثورته من خلف "حجاب"، وعادت "الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا" إلى الحلم من جديد للإستيلاء على الحكم في ليبيا، وعاد بعض من الأمل من جديد لبعض من أتباع "الجماعة الليبيّة المقاتلة" الذين لم يتمكّن العقيد معمر معمر القذّافي من "ترويضهم" وأخذوا هم بدورهم يحلمون من جديد ل"حكم ليبيا". وجد تنظيم "الإخوان المسلمون" فرصة ثمينة في ثورة الشباب في ليبيا ليتخذوا منها جسراً نحو تحقيق الحلم الطويل المدى ليحكموا ليبيا. كانت ثورة 17 فبراير مبعث الأمل عن الكثير من القانطين الذين آصابهم اليأس من فرط طول الإنتظار ومن أثر تكرار الفشل عبر عقود من الزمن. وجد كل القانطين فرصتهم في ثورة الشباب كي يعيدوا الأمل إلى أنفسهم بحكم ليبيا بعد أن تبخّر ذلك الأمل وتحوّل إلى "إستحالة".
لقد قام الشرفاء بالثورة فمات منهم من مات ومن بقى منهم على قيد الحياة عاد إلى المكان الذي أتى منه بمجرّد إحساسه بأنّه كان قد حقّق هدفه وهو "إسقاط النظام".
حينما عاد الشرفاء إلى بيوتهم أو مواقع أعمالهم تركوا الساحة من خلفهم شاغرة فدخلها "الحقراء" ليملأوا فراغها بوجودهم، وحينما لم يجدوا من ينافسهم أو يبعدهم أو يكشف اللثام عن وجوههم... تملّكوا المكان وأصبحوا من "سادته".
ترك الشرفاء ليبيا للحقراء فتسيّدوا عليها ثم حكموها، وإذا بهم يوصلوها إلى حيث هي اليوم. سوف يبقون فيها إلى أن يأتي إليهم من يطردهم منها..... فأين هم شرفائك يا ليبيا؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك