خرجت في هذا الصباح من بيتي متّجهاً نحو مكان إنعقاد المؤتمر السنوي لأخصائيي الأمراض العصبيّة في غرب المنطقة الوسطى، ومع أنّني أعرف المدينة التي ينعقد فيها ذلك المؤتمر جيّداً إلاّ أنّني لم أكن أعرف مكان إنعقاد المؤتمر فأخذت معي مستكشف الآماكن عن طريق الأقمار الصناعيّة والذي يسمّى "طمطم".
أعطيت عنوان المكان البريدي لطمطم وطلبت منه أن يوصلني إلى عين المكان. عرض عليّ توصيلي في خلال 3 ساعات (مسافة 15 ميل) فضحكت عليه وأمرته بأن يوصلني في نصف ساعة!.
أخذ منّي كل المعلومات التي يريدها وبدأ يمارس مهمّته كما طلبتها منه. قال لي وأنا مازلت في سيارتي أمام البيت بأن أذهب حتى جزيرة الدوران وبعدها عليّ بالدوران نحو اليمين وأخذ المخرج الثاني من الجزيرة. بكل تأكيد أنا أعرف تلك المعلومات فتوكّلت على الله.
قبل إشارة المرور بمسافة حوالي 100 ياردة طلب منّي الطمطم بأن أتجه إلى اليسار وبعد مسافة 300 ياردة أخرى أن أتجه إلى اليسار مرة ثانية. واصلت المسير في طريق أعرفها جيّداً وظلّ الطمطم صامتاً حتى إقتربت من الإشارة الضوئيّة التالية فطلب منّي أن أتجه إلى اليمين بعد 100 ياردة، وهنا قلت له "لا" ليست تلك الطريق التي أريد الذهاب منها.
كان حضرته على ما يبدو يريدني أن أتّجه إلى الطريق السريع لمسافة 6 أميال وبعدها آخذ الطريق السريع الثاني لأتّجه عن طريقها إلى مدينة ليستر حيث مكان المؤتمر. أنا أعرف بأن الطريق السريعة في ذلك الوقت من اليوم تعتبر مزدحمة جّداً وقد أمضي أكثر من نصف ساعة في مسافة ال6 أميال وهذا أعتبرته قمّة في الغباء من صديقي الطمطم.
رفضت نصيحته وواصلت المسير في الطريق التي أعرفها، وسرعان ما إقتنع الطمطم بفكرتي وبدأ في توجيه النصائح لي حسب خطّة السير التي فضّلتها.
سكت الطمطم قليلاً ثم نصحني بأن أتجه إلى اليسار بعد مسافة 300 ياردة، وشكرته على تلك النصيحة فقد بدأ يوافق على خط سيري. إتجهت إلى اليسار لمسافة قصيرة ثم نصحني بأن أتجه إلى اليسار في نهاية الطريق. هنا إعترضت على نصيحته، فقد أراد أن يوجّهني إلى الإتجاه المعاكس ولم أدري حينها كيف كان يفكّر الطمطم وهل هو "متلخبت" أم أنّه أراد أن يغرّر بي.
خالفته للمرّة الثالثه وسرت في الطريق التي أعرفها، فظلّ الطمطم صامتاً وطال صمته حتى ظننت بأنّه غضب منّي وقرّر عدم مساعدتي بعدها.
أنا بكل تأكيد أعرف بداية الطريق وحتى وصولي إلى مدينة ليستر، لكنّني لا أعرف المكان هناك والوقت عندي كان ضيّقاً جداً فخفت بألّا أستطيع إنجاز المهمّة قبل بداية الإنعقاد في العاشرة صباحاً.
كنت أفكّر في أحسن الطرق للوصول إلى هناك معتمداً بالكامل على نفسي فإذا بالطمطم يخرح عن صمته فجأة وبدون مقدّمات ليحذّرني من وجود كاميرا سرعة أمامي، فشكرته على ذلك التنبيه مع أنّني أعرف مكان تلك الكاميرا. فرحت لأنّه رضى عنّي وقرّر مساعدتي رغم قسوتي عليه.
بعد برهة سكوت قصيرة أخرى طلب منّي بأن أتجه نحو اليمين في الطريق القادمة بعد مسافة 200 ياردة. كان رائعاً في هذه المرّة حيث ربّما رضخ لتتبّع خط سيري، ومضيت في طريقي حتى إقتربت من مفترق طرق فطلب منّي بأن أتجه إلى اليمين بعد 300 ياردة. قلت له "لا" مع أنّني ظننت بأنّه ربما كان يريدني أن أبتعد عن أماكن الإزدحام لآخذ طريقاً أخرى أطول مسافة لكنّها ربما تكون أقل إزدحاماً، ومع ذلك قرّرت المضي في طريقي كما خطّطت لها في البداية فظلّ الطمطم صامتاً مع أنّه رسم لي على شاشته خريطة الطريق التي أمامي بكل وضوح وحسبما إخترتها أنا.
ظلّ الطمطم صامتاً وأنا أنتظر منه ولو إشارة سريعة تبيّن لي بأنّه مازال راغباً في مساعدتي. ظل صامتاً مما زاد من مخاوفي حتّى خرج عن صمته فجأة ليطلب منّي أن أتجه إلى اليسار بعد مسافة 400 ياردة.
فرحت كثيراً لأنّه لم يغضب منّي بعد وهو مازال وفيّاً لي كما عهدته. إتجهت إلى اليسار حيث أنني مازالت أعرف الطريق إلى ليستر، وإستمريّت بسرعة أكبر والطمطم بجانبي ظل على صمته، فربّما كان ينظر من نافذة السيّار ليمتّع نفسه بتلك المناظر الخلاّبة من المزارع والحيوانات المنتشرة في كل مكانعلى جانبي الطريق حيث كانت المنطقة زراعيّة وكان الصباح حينها دافئاً نسبياً وجافّاً.
مضيت في طريقي والطمطم بجانبي مازل صامتاً حتى ظننت بأنّه أخذه النعاس غير أن خريطة الطريقة مازالت مرتسمة على محيّاه (شاشته) وعليها سهم التوجيه يشير إلى الإتجاه القادم وكان مصيباً. بعدها خرج عن صمته ليقول لي: بعد 300 ياردة إتجه إلى اليسار تحت الجسر وخذ المفرق الثالث تجاه الطريق السريع، وكان موفّقاً جدّاً هذه المرّة ففرحت من جديد وشعرت حينها بأنّنا أصبحنا أصدقاء من جديد، حيث أنّني كنت بصدق محتاج إلى مساعدته إعتباراً من الآن فصاعداً.
دخلت الطريق السريع والذي رقمه 69 وبكل تأكيد أخذت سرعة السيّارة تتزايد بشكل سريع حتى بلغت 100 ميل (160 كلم) في الساعة فقلت في نفسي ربّما تكفيني هذه السرعة للوصول في الوقت المناسب.
ظل الطمطم صامتاً حتى بدأت إقترب من الجسر المقابل والذي بعده أعرف بأنّني إحتاج إلى مساعدته، فبدأت أحس بالقلق من جديد حيث لم يعجبني تجاهل الطمطم لي بالكامل.
وفجأة خرج عن صمته وقال لي: بعد 200 ياردة وبعد الجسر خذ الطريق الثاني وإستمر فيه. فرحت وبالفعل إستمعت إليه هذه المرّة بدون معاندة ومضيت في الطريق حسب النصيحة ومن حينها أخذ الطمطم يأمرني وأنا أقبل حتى أوصلني إلى مكان غريب ومخيف ومزدحم وحينها بدأت الأمطار تهطل بشكل غزير جدّاً حتى بدأت معالم الطريق غير واضحة وهناك أحسست بأن الطمطم أصبح يمتلك اليد العليا بدون أن أقدر أنا على مناقشته أو معاندته أو تجاهل نصيحته. لم أجد لي حينها من خيار غير المضي قدماً بينما ظل الطمطم صامتاً لكنّني هذه المرّة رضيت بصمته وإعتبرت أن صمته ربّما يعني بأنّه كان راضياً عن خط سيري. ظلّ صامتاً وأنا أسير إلى الأمام وفي نفس الطريق حتى دخلت آماكن صغيرة وطرقاً ضيّقة ومزدحمة مع تلك الأمطار التي كانت تهطل كالوديان مما أخافني كثيراً وكان الوقت 10 دقائق قبل العاشرة. بدأت أحس بالقلق حيث أنّني لم أعرف وقتها أين أنا وما هي المسافة المتبقيّة أمامي قبل وصول قاعة المؤتمر، ولكن لم يبق لي من إختيار. قرّرت حينها بأنّني ربّما أتأخّر لنصف ساعة وقلت في نفسي: وماذا لو تأخّرت نصف ساعة، إن الحياة سوف لن تتوقّف والعالم من حولي سوف يسير في طريقه كما كان مخطّطاً له وشعرت وقتها بأنّني لست أكثر من رقم صغير جدّاً في هذا العالم الكبير... فليكن؟ .
وأنا سارحاً في رسم ذلك السيناريو قطع الطمطم صمته فجأة ليقول لي: والآن.. إنّك وصلت إلى غايتك. نظرت حولي من هنا ومن هناك فإذا بي أجد نفسي أمام محطة السيّارات التابعة لقاعة المؤتمر، وكانت الساعة 09:58 ففرحت جدّاً وشكرت الطمطم المخلص، وقلت في نفسي حينها... قد نحاول قهر التقنية، لكنّنا لم نعد نقدر بعد تلك الإبداعات الحديثة التي أضيفت إليها !.
كان المؤتمر رائعاً، وإلتقيت من خلاله بالعديد من الأخصائيّين الذين لم ألتق بهم منذ فترة، وإلتقيت بصديق عزيز من بلدي ليبيا أحترمه كثيراً وأقدّره وهو من الأخصائيين الكبار في مجال أمراض المخ والأعصاب، وكان الطعام لذيذاً واليوم مرّ سريعاً لكنّه أشهدني على الكثير من الأفكار الجديدة وأفادني بالكثير من الإضافات الدقيقة وجدت نفسي في حاجة لمعرفتها.
هناك فقرة عرضت في هذا المؤتمر تركت في نفسي أثراً كبيراً فوددت أن أشارككم فيها.
كان أحد المشاركين يطرح خبرته في مجال التأهيل النفسي والعضلي للمصابين بعاهات نتيجة لأمراض عصبيّة تؤثّر بشكل كبير في مقدرة الإنسان العضليّة والذهنية والنفسيّة، وكان ضرب مثالاً بأولئك الذين - لسبب من الأسباب - يغيبون عن الوعي لكنّهم يبقون على قيد الحياة أو ما يعرف بمتلازمة الإنكفاء على الذات Locked in syndrome حيث قد يعيش المصاب لأكثر من 10 سنوات ولا يستطيع أحد إيقاف أجهزة الدعم الحياتي مثل التنفّس الصناعي وتوابعها من مبقيات الحياة الصناعيّة، وقال إن مثل هؤلاء المصابين تتجاوز نسبة الموت عندهم 70% في السنة، وهم مازالوا يعتبرون بالنسبة لنا من الحالات الغريبة التي لا نعرف عنها الكثير ولازلنا نعاني من صعوبات كبيرة في فهم كنه ما يجري لهم.
وأضاف قائلاً: إن الشخص منهم يكلّف الخدمات الصحيّة في بريطانيا 75,000 جنيه إسترليني في السنة لإبقائه على قيد الحياة.
حينها أحسست بإنقباض شديد وبالكثير من الأسى والحزن حيث أنّهم هنا يبقون شبه الميّت على قيد الحياة ويدفعون من أجل ذلك كل تلك الأموال الباهضة على أمل أن ينقذوا من يستطيعون إنقاذه ولو بعاهات مستديمة. في المقابل، نحن في ليبيا يطارد أنصار الشريعة والمتشدّدون في الدين شباب في ربيع العمر وهم في كامل قدراتهم العضلية والذهنية والنفسية وما إن يمسكوا بهم حتى يذبحوهم كالخراف ليقضوا على الحياة بداخلهم وهم أصحّاء. عندها شعرت بأنّنا لسنا بشر ولسنا حيوانات مفترسة وإنّما نحن "برابرة" لا نمتلك قيمة إنسانيّة واحدة، وقتها شعرت بالأسى والحزن على ليبيا وعلى أهلها.... أحسست بأنّنا في عالمنا العربي والإسلامي ربّما لا نستحق الحياة كغيرنا من شعوب العالم لأنّنا نختلف في تفسير ديننا بذلك القدر الذي يكفّر فيه بعضنا البعض فيقام "الحد" ويذبّح البشر كالخراف ولكن بدون ذكر إسم الله هذه المرّة على الذبيحة فتموت حسب فهمهم "جيفة"، وينالون هم - كما يظنّون - رضاء الله ويدخلوا الجنّة فيمتّعوا أنفسهم بتلك الحوريات الموعودة وأنهار الخمر المتسن والغير متسن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك