الطبيب الحاذق هو من يتعرّف عن كثب عن قصة المرض ثم يكشف عن الحالة وبعدها يفكّر في التشخيصات المحتملة. حينما تكون هناك إحتمالات للتشخيص يقوم الطبيب بعمل التحاليل التي تساعده على معرفة التشخيص النهائي وبعدها يتسنّى له وصف العلاج المناسب. إن من يصف العلاج بدون تشحيص للحالة هو فقط من لا يفقه في التطبيب وعليه بألا يمارس هذه المهنة.
أنا أظن بأن كل الوطنيّين من أبناء وبنات ليبيا ممّن يقيمون في طرابلس أو في خارجها يعرفون يقيناً بأن العاصمة هي الآن "محتلّة" بالكامل من طرف مليشيات لا تخضع لسيطرة الدولة ولا تأتمر بأمرها.
فبعيد إستيلائها على المطار وتدمير ما تبقّى منه على الأرض، قامت مليشيات مصراته ومن تبعها ممّن ينتمون إلى ما يسمّى ب"عمليّة القسورة" بالزحف الفوضوي نحو العاصمة، فكان حي الأكواخ أوّل ضحيّة بمن تبقى من ساكنيه الذين لم يتمكّنوا من الفرار، ثم إتجهت تلك المليشيات نحو غرب طرابلس فهاجمت سكّان غوط الشعال من الزنتان والرجبان وإنتقمت منهم شر إنتقام، ثم قامت هذه الميليشيات الحاقدة بعد ذلك بتدمير بيوت الناس على الهويّة والإنتماء المناطقي، وبعدها تمّت سيطرتهم الكاملة على العاصمة بعد أن أخضعوا أهلها بقوّة الترهيب والتخويف، بحيث أنّهم إنتقموا من كل من سبق له وساند الجيش الليبي في "عمليّة الكرامة".. وخضعت العاصمة بكاملها لسلطة قسورة فكان يوماً حالك السواد.
بعد إحكام سيطرتهم على العاصمة، أتجه الغوغاء نحو المؤسّسات السياديّة في العاصمة من مباني ووزارات وإدارات خدميّة تتبع الحكومة الليبية ثم بعض سفارات الدول الأجنبية كالسفارة الأمريكيّة وسفارة دولة الإمارات، وتواصلت عمليّات السطو على المنازل وسرقة محتوياتها الثمينة، وتمت مهاجمة بيوت الكثير من الصحفيين وأصحاب الرأي الذين كانوا ينتقدون عمليّة قسورة ويعتبرونها تخريباً لليبيا.
الكثير منّا يعرف بأنّه قبل الإستيلاء على مطار طرابلس، قامت المليشيات التابعة لقسورة بمهاجمة قناة "العاصمة" وإحراقها فأسكت ذلك صوتها من حينها وإلى يومنا هذا بعد أن إعتدوا على الكثيرين من معدّي ومقدمي البرامج فيها، وقبيل ذلك بقليل قامت إمارة قطر (الراعية الرئيسية لعملية قسورة) بوضع يديها على قناة "ليبيا الأحرار" فغيّرت خطّها السياسي بما يدعم هذه العمليّة ويمتدح الميليشيات المسلّحة بما يتماشى مع دعم إمارة قطر لتنظيم الإخوان المسلمون، وبالفعل وضعت قناة "ليبيا الأحرار" في فراش الإحتضار البطئ وهي الآن تنتظر مصيرها المحتوم.
أصبحت العاصمة في ليبيا بكاملها في قبضة المليشيات، وأصبح أهل طرابلس يعانون من القهر والإذلال بما يشبه ما عانوه في آخر أيّام حكم الطاغية معمّر القذّافي مع فارق جوهري وهو أن الخدمات واللوازم اليومية من غاز وكهرباء وغذاء كانت متوفّرة في عهد الطاغية القذّافي مقابل شح في كل شئ في عهد الميليشيات المحتلة.
هناك عامل آخر يجب التنبيه عليه وهو أن سكّان العاصمة بدأوا بالفعل يحسّون بالإهانة اليوميّة لكرامتهم حيث أن معظم المليشيات المحتلّة هي من مدينة مصراته التي فرح أهل العاصمة منذ عدة أشهر فقط بالتخلّص منهم في وقفة "غرغور" الشهيرة والتي إنتصر فيها سكّان العاصمة على مغتصبيهم من مليشيات مصراته.
الآن... والوقائع على الأرض في طرابلس هي كما نعرفها، ما هو المخرج لسكّان العاصمة من هذه الأوضاع الصعبة، وكيف بوسعهم التكيّف مع مليشيات تحكمهم بقوّة الحديد والنار، وهل يمكن تدجين سكّان العاصمة وإخضاعهم، أم أنّهم سوف يسكتون ويسكتون إلى أن ينفذ صبرهم وبعدها ينتفضون بهدف الإنتصار لكرامتهم؟.
الرائد محمد حجازي الناطق الرسمي بإسم عمليّة "الكرامة" قال إن الجيش الوطني يستعد الآن لمهاجمة المليشيات وتطهير العاصمة من براثنهم، وسبق لي أن سألته عبر وسائل الإعلام وعن طريق أحد أعضاء مجلس النوّاب بأن يتريّث ويتثبّت وبأن لا يضيف بنزيناً على النار الملتهبة.... طلبت منه بأن ينسى مهاجمة طرابلس، وبأن يزيلها من مشاريعه المستقبليّة؛ فيكفي أهل العاصمة ما يعانونه الآن.
نعم... فليس ذلك هو الحل المجدي لمشاكل طرابلس إذا أخذنا في الإعتبار أن العاصمة يسكنها أكثر من ثلث سكّان ليبيا، وهي ربّما تحتوي على أكثر من نصف ثروة ليبيا وبنيتها التحتيّة، كما أن العاصمة يتواجد بها أكثر من نصف العقول الليبيّة وحملة الشهادات الجامعية والتخصّصية المختلفة.
لا... هذا الوقت هو غير مناسب لتحرير العاصمة من ميليشيات مصراته ومن يقف معها. سوف يأتي ذلك اليوم قريبا بإذن الله ولكن بألية مختلفة تماماً عن إستخدام ألة الحرب والدمار والقتل والتشريد. سوف تتحرّر طرابلس من داخلها وبأيدي أهلها بإذن الله.
طرابلس عبر العصور
لنعد إلى التاريخ.... فطرابلس حكمها الرومان قديماً، وبدل أن يدمّروها بنوا فيها الكثير من المباني الفخمة والكنائس والمعابد ولعل أشهرها قوس الإمبراطور ماركوس أوريليوس الموجود إلى حد الآن في طرابلس والمعروف بقوس النصر.
بعد ذلك دخل الوندال ليبيا فخرّبوا صبراته ولبده، لكنّهم لم يخرّبوا طرابلس، بل إن طرابلس كانت نمت في عهدهم وزادت أهمّيتها بعد أن تفوّقت على المدينتين المنافستين لها واللتان دمرهما الوندال كما ذكر أعلاه.
دخل بعد ذلك العرب طرابلس ولم يخرّبوا فيها بيتاً واحداً ولم يهدموا معلماً، بل إن طرابلس نمت وكبرت في عهدهم.
في عام 1510 دخل الإسبان طرابلس وقاومهم الطرابلسيون ببسالة، لكن القوات الإسبانية كانت تتسـم بالوحشية والتعصـّب والظلــم، فقد عمل الإسبان على طرد جميع الطرابلسيين من المدينة، وجلب أكبر عـدد من المسيحيين بدلاً عنهم، ولم يقوموا بأي إصلاح يذكر، فقد أهملوا التجارة والصناعة والزراعة وأثقلـوا كاهل المواطنين بالضرائب، مما أدى إلى كساد التجارة وبور الأسواق، وهذا الضغط أدى إلى ظهور المقاومة الوطنية التي اتخذت مـن منطقة "تاجوراء" المتاخمة للعاصمة، مركزاً لها لشن الحملات الحربية ضـد الإسبان، وتمكّنت من محاصرة الإسبان في طرابلس، إلا أن المحاولة لم يكتب له النجاح. ونتيجة لاشتداد وتزايد المقاومة الوطنية، وتزايد خطر العثمانيين فـي البحر المتوسّط، فإن الإسبان تنازلوا عن طرابلس لفرسان القديس يوحنا سنة 1530 ميلادي، غير أن طرابلس رغم كل ذلك ظلّت متماسكة ومبانيها مصانة وعامرة.
ناشد الطرابلسيون الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، الدخول إلى طرابلس وإخراج فرسان القديس يوحنا، وقد تمكَن العثمانيون من ذلك بالفعل بقيادة درغوت باشا الذي تزعّم المقاومة المتكونة من الجيش العثماني وأهالي طرابلس، واتخذ من تاجوراء مقرًا للقيادة، وبعد أن تم إخراج فرسان القديس يوحنا، فإن طرابلس أصبحت رسميًا ولاية تابعة للدولة العثمانية تحت اسم "ولاية طرابلس الغرب".
لم تدمّر طرابلس حين دخول العثمانيّون إليها، بل إنّهم حوّلوها إلى مدينة ليقيموا فيها مقرّاتهم الحكوميّة، كما أنّهم بنوا بها مساكن فاخرة لإقامة موظّفيهم.
بعد أن تكونت طرابلس كمدينة، أصبحت هي نفسها في حاجة لأسواق للجملة والقـطاعي تخـدم الأهالي، لهذا ظهرت الحاجة الملحة لبناء مثل هـذه الأسواق والتي تركزت بصفة خاصة في الناحية الشرقية مـن المدينة القديمة.
دخل الإيطاليّون بعد ذلك طرابلس ولم يخرّبوها، بل إنّهم بنوا بها الكثير من العمارات والفلل ومكاتب ممثّلي الحكومة الإيطاليّة في كل ليبيا.
في الحرب العالمية الثانية، لم تدمّر طرابلس، بل كانت أختها في شرق البلاد "طبرق" هي من وقف في الواجهة مدافعاً عن طرابلس البعيدة، فتم تدمير طبرق في أحداث موقعة العلمين الشهيرة، وتمكّن الحلفاء من دخول طرابلس بدون قتال مما حافظ على تماسك المدينة وسلامة بنيتها التحتيّة.
في إنقلاب الجيش على النظام الملكي في عام 1969، لم تشهد العاصمة أي نوع من القتال، وذلك لإحتضان أهل طرابلس وكل سكّان ليبيا للتغيير الذي قام به الجيش ورحّبوا جميعاً بسقوط النظام الملكي الذي كان ضعيفاً وكانت شعبيّته في الحضيض في تلك الأثناء. خرجت طرابلس حينها سليمة معافاة وبدون أن يصيب أبنيتها أو شوارعها أي دمار على الإطلاق.
في ثورة الشعب الليبي على الطاغية القذّافي في عام 2011، شهدت الكثير من المدن الليبيّة دماراً وخراباً منقطع النظير من أمثال مدينة الزنتان والزاوية ومصراته وإجدابيا والبريقة، لكن طرابلس بقيت أبنيتها وشوارعها متاكملة بدون أي أذى يذكر.
من هنا نرى أنّه عبر التاريخ وبرغم كل الحملات الإستعمارية الشرسة على طرابلس فإن المدينة بقيت دائماً متكاملة ومصانة وإستخدمها كل من إحتلّها كعاصمة لسلطته وبذلك فقد تم تجديد مبانيها وتوسيع شوارعها وإضافة أهميّة جديدة لها.
هل تتمكّن طرابلس من النجاة من التدمير هذه المرّة، أم أن من يحتل طرابلس الآن قد يكون أشد ضراوة من فرسان القديس يوحنّا؟. فلنترك الإجابة على مثل هذا السؤال للأيام القادمة لنرى ما سوف يحدث للعاصمة.
كيف سوف تتحرّر طرابلس من مغتصبيها؟
إن الهجوم على طرابلس من قبل أية جهة أو قوّة سوف يعتبر كارثة يجب تفاديها مهما كانت المبرّرات. إن وجود طرابلس خارج سلطة الدولة الرسمية لا يبرّر على الإطلاق مهاجمتها وإرجاعها بالقوة لسلطة الدولة المعترف بها دولياً.
إن الذي سوف يحدث في مدينة طرابلس في الأسابيع القادمة ربما يمكنني تكهّنه كالآتي:
- سوف تزيد القوة الغاصبة لطرابلس من شدّة قبضتها الحديديّة على العاصمة كلّما شعرت هذه القوة بوجود خطر يهددها ولو كان ذلك عن طريق الجيش الوطني وبإمرة رئاسة الأركان.
- القوّة التي تحتل طرابلس الآن هي خليط من المليشيات الغير منضبطة والتي لا توجد لها قيادة معروفة تتحكم فيها. كما أن هذه القوة تتكون في داخلها من مليشيات بولاءات مختلفة وتبعيات متنوّعة، وذلك سوف يفتح مجال الصراع فيما بينها في القريب العاجل ممها سيحوّلها إلى قوات متناحرة مع بعضها.
- كلّما إحتد الصراع بين مليشيات الثوّار في طرابلس كلّما إزداد الخناق على أهلها وكلّما أحس أهل العاصمة بالضيق كلّما إرتفعت درجة الحنق والغضب عندهم في وجه القوات الغازية، وهذا سوف يولّد تيّاراً شعبيّاً قويّاً يعاند الإحتلال ويكرهه. ذلك بكل تأكيد سوف يحوّل سكان العاصمة إلى خصم للمحتل وهذا بدوره سوف يعرّض المليشيات المحتلة للتصادم مع سكان العاصمة مما سوف يوحد سكان العاصمة ضد المليشيات، وقد يدفع هذا بالناس إلى الخروج للشوارع في ثورة عارمة ضد المليشيات سوف لن تنتهي إلاّ بطرد هذه المليشيات بعيداً عن العاصمة.
- المليشيات التي تحتل العاصمة الآن هي بحكم القانون المحلي والدولي غير شرعية، والجهات التي تنفق عليها وتسيّر أمورها هي بدورها جهات غير شرعية ولا تحظى بإعتراف أحد من دول العالم. هذا الوضع الصعب سوف يعرّض قادة هذه المليشيات والداعمين لها للمساءلة القانونية المحلية والدولية وقد يصل الأمر إلى مجلس الأمن ومحمكمة العدل الدولية.
- غياب الإعتراف الدولي بقادة هذه المليشيات وأجهزتهم الغير قانونية من أمثال المؤتمر الوطني وما يسمّى بحكومة الإنقاذ سوف يدفع إلى محاصرة هذه المليشيات إقتصاديّاً وتسليحياً ولوجستيا أيضاً مما سوف يضعفها ويولّد الصراع بين منتسبيها وما سوف يصاحب ذلك من هروب لمكوّنات هذه المليشيات بعيداً عنها وربما الإنضمام إلى الطرف الثاني مما سوف يقويّه ويضعف المليشيات.
- سوف ينحسر الدعم الشعبي لعملية القسورة في داخل العاصمة تدريجياً إلى أن تصبح تلك المليشيات في نظر كل سكان العاصمة على أنّها قوة مغتصبة تحتكم إلى فرض الجبروت والقهر على الناس، وهذا ما سوف يدفع جماهير سكان العاصمة إلى الخروج للشوارع ومهاجمة المليشيات في معسكراتها وثكناتها وأماكن تجمعها، وحينها ربما تقوم جماهير الشعب بطلب الدعم من الجيش والشرطة التي سوف تكون جاهزة وقتها لتلبية الطلب وإنتهاز الفرصة لبسط سيطرتها على العاصمة وبدون قتال، وبذلك فسوف تسلم العاصمة مرة أخرى ويعيد التاريخ نفسه ولكن بنسق مختلف.
ماذا على الجيش عمله في الوقت الحالي؟
على مجلس النوّاب ضم رئاسة الأركان لوزارة الدفاع بحيث تكون الأركان هي الذراع التنفيذي لوزارة الدفاع، وبذلك يتمكن الجسمان من البدء في بناء الجيش بأسلوب عصري ومقنّن ومتسارع.
على وزارة الدفاع التفكير في الخروج من المدن الكبرى وبناء معسكرات التجييش في المناطق البعيدة عن المدن حيث يتوفّر الأمن ويتلاشى العنف وعمليات التخريب من قبل المليشيات الخارجة عن الشرعية، والتي تفضّل التمركز في المدن الكبرى حيث تكثر الغنائم ويزدهر "البريستيج".
حينما تتمكن وزارة الدفاع من بناء وتجهيز معسكرات التدريب يبدأ الجيش في التكوّن أليّاً، ويتحوّل الجيش إلى مشروع وطني يتوق إليه كل الليبيّين والليبيات على أساس أنّه أصبح ضرورة من ضرورات تكوين الدولة، وكذلك حيث يرى فيه المواطن الداعم والنصير ضد تغوّل المليشيات التي لا ترضخ للضبط والربط الذي يعتبر ميزة من مميزات الجيش النظامي.
حينما تتشكّل كتائب الجيش في مختلف المدن الليبية النائية تعمل هذه الكتائب مع بعضها بمثابة طوق يحيط بالمدن الكبرى من بعيد مما يحوّل المليشيات إلى مجموعات مسلّحة غير شرعية ومحاصرة من كل مكان بالجيش الليبي، وهذ بكل تأكيد سوف يخيف الكثير من المنتسبين إليها مما يدفعهم إلى الهروب أو الإنضمام الرسمي للجيش.
ذلك الوضع سوف يسهّل عملية دخول كتائب الجيش إلى المدن الكبرى ومنها طرابلس بدون الحاجة إلى قتال وهذا يحمي تلك المدن من عمليات القتل والتدمير والتخريب. تذهب الميليشيات على إثر ذلك ويفتح المجال امام قوات الشرطة لتملآ الفراغ الأمني مما سوف يوفّرعلى الجيش الحاجة لدخول المدن الكبرى، وذلك بكل تأكيد سوف يحافظ على أرواح الناس وسوف يحمي البنية التحتية من مخاطر التفجيرات والتدمير والتخريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك