الفرق بين المتعلّم والجاهل هو كالفرق بين التحضّر والتخلّف. الإنسان المتحضّر هو من يحسب الأشياء ويوازن بين الضرر والمنفعة، فلا يقدم على فعل ما إلاّ ويحتسب نتائجه وينتبه إلى عواقبه. الإنسان الغير متحضّر هو ذلك الذي يتصرّف بكل عشوائيّة وبدون أي تفكير أو تدبّر فتكون نتائج أفعاله في العادة خسران مبين.
عندما قامت عمليّة ما يعرف ب"فجر ليبيا" وما أطلق عليها لاحقاً من قبل الجماعات الدينيّة التي خطّطت لها وأشرفت عليها من مسمّى ثان "قسورة" مع أن الإسم الأوّل هو ما عرض على الناس فعساهم أن يتقبّلوه على إعتباره أنّه جزءً من الثقافة السائدة.... عندما أشعل أوّل فتيل معركة "فجر ليبيا" قلنا بأن المقصود من تلك العمليّة هو "تدمير ليبيا" وإذا أردنا الإحتفاض بذلك الإسم فربّما يكون الأنسب له هو "فجر ليبيا الأسود".
بالفعل، بدأت عمليّة "فجر ليبيا" يوم 15 رمضان 1435 الموافق 13 يوليو 2014 وذلك بالهجوم المسلّح على مطار طرابلس العالمي بإستخدام المدافع والراجمات ثم بعد ذلك الصواريخ طويلة المدى، وكان أن دمّرت الكثير من الطائرات وهي رابضة على أرضيّة المطار، ودمّرت صالات الركّاب وبرج المراقبة وبقية مرافق المطار الحيويّة.
وإستمرّت تلك الهجمة الشرسة على مطار طرابلس وما حوله لأكثر من 43 يوماً تم خلالها تدمير أغلب مرافق مطار العاصمة وتم خلالها أيضاً حرق مايزيد عن 8 خزّانات وقود في المنطقة المحيطة بالمطار، وتم تدمير منازل المواطنين وقتل الكثير منهم في منطقة قصر بن غشّير وفي منطقة حي الأكواخ.
وهكذا أصبح بعد تدميره
الهجوم على مطار طرابلس بكل تأكيد لم يبق في نطاق المطار بل إنّه إنتقل إلى العاصمة نفسها وإلى المناطق المحيطة بها حتى أنّه تحوّل إلى معارك دامية وصواريخ مدمّرة لكل مكان من الزاوية وحتى تاجوراء ومن البحر وحتى قصر بن غشّير، وتجاوز عدد الضحايا الألاف كان الكثير منهم من الأطفال الأبرياء والنساء والمسنّين. خسرت ليبيا من جراء هذه المعركة ما يزيد عن 6 مليارات من بنيتها التحتيّة وخسرت فوق كل ذلك الإنسجام الإجتماعي بين سكّان العاصمة وفي ليبيا ككل نتيجة للترابط الأسري القوي الذي كانت تفتخر به ليبيا وتفاخر به غيرها.
معركة "فجرليبيا" أيضاً خلقت وراءها عداءات كبيرة وخطيرة بين رفاق ثورة 17 فبراير على الطاغية القذّافي في عام 2011 وخاصّة بين الزنتان ومصراته، حيث كان أحرار وأشراف الزنتان أوّل من إنتفض على الطاغية وكانت الزنتان من أوائل المناطق التي تحرّرت من قبضة الطاغية القذّافي. ثوّار الزنتان كما يعرف كل الليبيّين كانوا السبّاقين لمساعدة إخوانهم في المناطق المجاورة مثل الزاوية وفي المناطق البعيدة مثل مصراته والبريقة وإجدابيا وبني وليد وأخيراً سرت.
كان أحرار الزنتان هم من ساهم وبكل قوة في تحرير مصراته من كتائب الطاغية القذّافي الذي كان ربما قد عقد العزم على تدمير تلك المدينة عن بكرة أبيها لولا تلك المساندة من الزنتان وبقية المدن الليبية التي تحرّرت قبل ذلك.
إستمرّت الهجمة الشرسة على العاصمة لأكثر من 43 يوماً تمكّنت في نهايتها مليشيات الإخوان ومن كان معهم من الجماعات الدينيّة المتطرّفة وبوحي من مفتي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني، وبدعم مباشر وقوي من قطر وتركيا وإخوان مصر والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين... تمكّنت كل تلك القوّات المهاجمة من السيطرة على مطار طرابلس ودخوله يوم 24 أغسطس عام 2014 وبمجرّد دخول الميليشيات أرض المطار أضرمت هذه الميليشيات النار في ما تبقى من صالة الركّاب وبقية المباني الحيويّة بالمطار حتى إلتهمت النيران كل ما وقف في طريقها فكان الدمار ماحق وشامل.
داخل المطار وهو يحترق بعد أن أضرم الغوغاء النار في مبانيه وصالاته إنتقاماً من العاصمة وأهلها
حرق آخر ما تبقّى من مطار طرابلس العالمي على أيدي ميليشيات مصراته
وأضرمت النار عمداً في المطار بعد إحتلاله إنتقاماً من أهل طرابلس
بعد أن إحتلّت الميليشيات مطار طرابلس توزّعت في العاصمة بكل فوضويّة وبدأت تهاجم المساكن وممتلكات أهالي الزنتان في غرب طرابلس، وكذلك مساكن المواطنين في مناطق مختلفة من العاصمة والتي كان من بينها منزل السيّد عبد الله الثني رئيس الوزراء.
حرق بيوت المواطنين في غوط الشعال بعد إحتلال المطار إنتقاماً من كل من هو زنتاني
حرق منزل رئيس الوزراء ومنازل المواطنين الذين لم يساندوا الميليشيات أثناء حربها على المطار
بعد أن أستهدف الغوغائيّون منازل كل من له أصول زنتانيّة أو من جاهر بالعداء للميليشيات أو أنّه قاد مظاهرات مناهضة لمن يسمّون بالثوّار.. كل هؤلاء تم إقتحام بيوتهم وسرقة محتوياتها وتم إضرام النار في بعضها. بعد كل تلك الأعمال الهمجيّة قام الغوغائيّون من أشباه "الثوّار" بمهاجمة منازل وممتلكات الإعلاميّين الذين إنتقدوا عملية "فجر ليبيا" ومن بينهم منزل الإعلاميّة عفاف زريق:
وخلاصة القول... إن الهجمة الحمقاء التي قام بها الغوغائيّون من أتباع جماعة الإخوان والتنظيمات الدينيّة بدعم من المفتي بعد إحتلال المطار وشعورهم بنشوة الإنتصار كانت قد تجاوزت كل القيم والأخلاق، وبالفعل تشابهت وإلى حد كبير بغارات الوندال والتتار في العصور الماضية.
إن طبيعة ومقدار تحضّر وتعليم أتباع ومؤيّدوا "القسورة" تبرهن على أنّ تصرّفاتهم كانت عبارة عن تصرفات مجموعة من الفوضويين الذين لا يخضعون لسلطان ولا يحملون في رؤوسهم عقولاً يفكّرون بها، وهم وللأسف يمتلكون أسلحة فتّاكة ومع كل ذلك فهم يحسّون بنشوة الإنتصار فدفعكهك كل ذلك إلى الطغيان والعمل على إهانة الآخرين وتحقيرهم بهدف التشفّي.
عندما يقع السلاح الفتّاك في أيدي الغوغاء ماذا نتوقّع النتيجة؟
وختاماً... أريد أن أذكّر ببعض من خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعندما فتح النبى صلوات الله عليه وسلم مكة التى لاقى من أهلها أشد العذاب هو
وأصحابه.. لم يقتص منهم ولم يسل الدماء.. ولكنه عفا وتجاوز عن أهلها.. ففتح مكة
دعوة للعفو والتسامح.. وعنها يقول الشيخ عماد مالك إمام وخطيب بالأوقاف: إن
المسلمين ليحتاجون إلى التسامح فى حياتهم أكثر مما يحتاجون إلى الطعام والشراب..
ويجب على المسلم أن يتأسى بنبيه صلوات الله عليه وسلم ويتحلى بخلق العفو والتسامح..
فالمسلم يجب أن يكون سمح فى المعاملة.. يجب أن يتخذ المسلم من موقف النبى صلى الله عليه وسلم من أعدائه عندما فتح
مكة منهج حياة ..
لقد دخل النبى صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو مطأطئ رأسه
متواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح.. حتى أن ذقنه ليكاد يمس واسطة
الرحل.. ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعراً بنعمة الفتح وغفران الذنوب والنصر
العزيز.. وحينما دخل النبى صلى الله عليه وسلم فاتحاً منتصراً عزيزاً معه عشر ألاف
من الجنود.. ورغم كل ما فعلوه بأصحابه من أذى ومن نهب ديارهم إلا أنه قد بلغ من
تسامح النبى صلى الله عليه وسلم أن يعفوا عنهم وأن يجعلهم أمنين.. فأرسل النبى صلى
الله عليه وسلم يعلن فيهم من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن
ومن أغلق بابه فهو آمن.. فهل ينظر المسلم منا إلى هذه الرحمة المهداة ويتأسى بنبيه
ويتسامح مع أخيه المسلم ويعفوا عن زلاته ويحسن إلى من أساء إليه ويعطى من حرمه..
تلكم هى مكارم الأخلاق التى بعث بها النبى صلى الله عليه وسلم.
هل يجد الغوغاء أو من يقف وراءهم وقتاً للعودة إلى خلق الرسول وطريقة معاملته لمن أساءوا إليه حينما عاد إليهم منتصراً فعفى عنهم وهو يقدر على إيذائهم؟. هل يرجع أولئك إلى أنفسهم يحاسبونها فعساهم أن يحسّوا بمقدار الإثم الذي يرتكبونه بإعتداءاتهم على بيوت الآمنين، وبمعاقبة الأبرياء نتيجة للحقد على من ينتمي إليهم؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك