ذهبت خلال الأيّام الثلاثة الماضية إلى برشلونه في إسبانيا لحضور أحد المؤتمرات الطبيّة، وهالني ما رأيت.
لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى برشلونة بل ربّما هي الرابعة، وفي كل مرّة تحطّ فيها الطائرة على أرض المطار أحسّ بأنّني أعود إلى أرض أجدادي وبأنّني لست غريباً عن هذه الديار . في كل مرّة أيضاً أصاب بخيبة الأمل حين أكتشف بأنّ هذه الأرض لم تعد لي ولم يعد أهلها يحسّون بأنّها أرض أجدادي.
بمجرّد وصولي إلى مطار برشلونه وجدت في إستقبالي المكلّفين بالضيافة والإستقبال، وبعد مصافحة وتحيّات وإبتسامات دعاني أحدهم إلى سيّارة التاكسي التي كانت تنتظر لنقلي إلى الفندق في وسط برشلونة.
كان سائق التاكسي مهذّباً ومتأدّباً ولبقاً في الحديث، ومع أن لغته الإنجليزية كانت ضعيفة إلاّ أنّه إجتهد في البحث عن عبارات تمكّنه من مواصلة الحديث معي. تحدّثنا عن الجو والناس في إسبانيا ومشاكل المال في هذا البلد وتحدّث هو عن البطالة.
دخلت التاكسي فهالني جمالها ونظافتها ورحابتها وطريقة توضيبها بحيث أنّها كانت قد حوّلت إلى صالون جلوس دائري تحيط به خمسة كراسي كبيرة تترك بينها فضاء رحباً حتى يخالك من الوهلة الأولى بأنّك تجلس في يخت ملكي مرفّه. كانت العربة حديثة وجديدة وبالفعل كانت على قدر كبير من الأناقة والفخامة. تحرّكت في وسط الشوارع الواسعة النظيفة فلم أسمع صوت محرّكها حتى ظننت بأنّها سيّارة كهربائيّة، ولم تؤثّر في إنسيابها نتوءات الطريق حتى شعرت بأنّني أجلس على "بساط الريح".
كنت أتأمّل الأماكن المحيطة وأراقب المباني الشاهقة على حافّتي الطريق، وكنت أنظر إلى السيّارت في الشوارع فشدت إهتمامي بنظافتها وحداثتها حتى إعتقدت بأن كل إسباني يقود عربة جديدة. قلت في نفسي: هذه إسبانيا التي كنّا في السنة الماضية نسمع عنها في الأخبار مع إيطاليا والبرتغال واليونان على أنّها من بين البلاد التي تعاني من الفقر ويعاني أهلها من كثرة البطالة.
أنا لم أرى فقراً ولم أشاهد بشراً في ملابس العاطلين عن العمل... أنا رأيت بشراً سعداء مستبشرين وهم يرتدون آخر صيحات الموضة ويقودون أحدث السيّارت. تذكّرت حينها بأنّني حملت نفس الإنطباع في الصيف الماضي عن "ميلانو" في إيطاليا والتي هي الأخرى وصفت بأنّها تعاني من كساد تجاري وفقر وبطالة. سرحت بخيالي لبرهة من الزمن خارج إسبانيا ورأيت ليبيا أمامي. قلت لنفسي: نحن في ليبيا نقول بأنّنا أغنياء وبأنّ بلادنا تزخر بالخيرات وبأنّنا نسبح على بحيرة من النفط، وبأنّ الله حبانا بهذه الثروة "العظيمة"... وتحسّرت حينها على ليبيا وعلى طريقة تفكيرنا هناك. نحن نجيد تزويغ الحقائق ونحاول أن نغمض أعيننا عن نواقصنا فلا نرى إلاّ ما نتمنّى ونصدّق ما نرى.
عدت من جديد بتفكيري إلى داخل التاكسي التي كنت إستقلّها إلى الفندق وتدبّرت قليلاً قائلاً لنفسي: الناس يتجوّلون في بلاد العالم لرؤية المعالم أو التمتّع بما يشاهدون أمام أعينهم بدون الخوض في الحيثيّات، لكنّني أنا توجد لديّ عادة غير حميدة لم أتمكّن من التخلّص منها وهي... قراءة ما قد يقع خلف الصورة. أنا أحاول دائماً أن ارى ما لم يبد ظاهراً للعيان... أحاول أن أسبح في الخيال بهدف رؤية ما وراء الأفق. أنا أحمل بلدي معي إلى حيث أذهب وأرى كل شئ من خلال "ليبيا" وتلك قد تكون مهمّة مرهقة.
كنت أنظر في كل مبنى فخم، وأتفحّص كل طريق نظيفة، وأقف عند كل إلتزام بالمواعيد، وأتأثّر بكل معاملة حسنة يصحبها تأدّب ممزوجاً بعبق التحضّر وملمس التمدّن فتترك تلك الأشياء في نفسي بصماتها وتحمّلني بإنطباعات حسنة عن البشر النابعة منهم أو عنهم.
كنت أتصوّر ذلك "العقل" الذي يسيّر كل هذه الأشياء وغيرها... كنت أنظر إلينا "نحن البشر" من يحمل ذلك العقل، وأتأمّل خلق الله فينا الذي أمدّنا بما يلزم للعبور سريعاً نحو الغد... والغد هو بطبيعة الحال ليس اليوم، وهو بكل تأكيد ليس "الأمس".... الغد هو بكل يقين "المستقبل"، والمستقبل هو الغد المأمول.
في رحلتي القصيرة من المطار إلى الفندق وأنا أجلس في تلك العربة الفاخرة كنت أترقّب الناس من النافذة فكنت أراهم وقد تجاوزونا بأكثر من عقود من الزمان... إنّهم تجاوزونا بأكثر من 100 سنة من الإنجازات الحقيقيّة وفي كل مجالات الحياة من الإنسانيّة إلى التقنيّة وإلى الحياتيّة. كنت أراهم وقد تجاوزونا ولم أرهم بمستعدّين للإنتظار.... لم أرهم راغبين في إنتظارنا، ولا أظنّهم براغبين في مد يد العون لنا إلاّ أن نطلبها نحن.
عدت إلى الواقع من جديد أتفحّصه... أنا هنا أتحدّث عن واقعنا نحن العرب وعن واقعنا نحن المسلمون. رأيت هؤلاء البشر وقد وصلوا إلى ما وصلوا وحقّقوا ما حقّقوا وهم لا يتوقّفون... ينظرون إلى الأمام ويسيرون إلى الأمام، بينما نحن مازلنا نناقش تطبيق الشريعة، ونناقش دسترة الشريعة، ونناقش أن تكون الشريعة أعلى من الدستور، وأن لا تخضع الشريعة للتصويت من قبل الناس. هنا تساءلت: وما هي هذه الشريعة التي يختصمون بشأنها ؟.... ما هي "الشريعة" التي يتحدّثون عنها ويصنعون منها بعبعاً يعملون على فرض رؤيته علينا بنفس الطريقة التي يرونها هم، وليس بتلك الطريقة التي يمكننا التناقش والتباحث فيها ؟. تذكّرت حينها بأنّه يتواجد بيننا من يدع إلى "إعادة الخلافة"، ويوجد بيننا من يريد منّا بأن نعود كثيرا إلى الوراء لنقلّد ما كان يفعله الرسول في زمانه وما كان يفعله الخلفاء بإجتهاداتهم حسب معطيات زمانهم... يريدون منّا بأن نتعالج بما كان رسول الله يتعالج به في ذلك الزمان بدون التنبّه إلى أن الطب في عهد الرسول عليه السلام لم يكن إلاّ كما كان، ولو كان غير ذلك لكان رسول الله تداوى بالعقاقير بدل التداوي بالأعشاب، ولكان رغّب أتباعه في القبول بالجراحة بدل الكي وبالتطبيب بدل التشريط. قلت في نفسي حينها... نحن بهذا النمط من التفكير "المعلّب" لا يمكننا أن نقود العالم من جديد، بل سوف لن نجد لنا آماكن نعيش فيها غير هوامش الحياة العصريّة، نقلّد ما يفعلون، ونأكل ما ينتجون، ونلبس ونقتني ما يصنعون.
نظرت من خلال النافذة إلى العالم المحيط باحثاً عن أثار أجدادنا في الأندلس فلم أرى منها الكثير في هذا المكان، لكنّني رأيت الكثير من أشجار النخيل على حافّتي الطريق، وعلى الهضاب المحيطة وفي الكثير من الميادين التي مررت بها.
تأمّلت الكثير في النخلات الباسقات، وشدّني إليها الحنين بإعتبارها من أثار أجدادنا الذين أتوا بها معهم فزرعوها في هذه البلاد التي لم تعهد مثلها من قبل، ولكن حينما تركوا إسبانيا هاربين نسوا بأن يحملوا معهم نخلاتهم. تركوا النخلة المسكينة لوحدها مع الغرباء، غير أنّها سرعان ما تعرّفت عليهم ووجدت الحنان والرعاية عندهم فعشقتهم وتجمّلت لهم وإزدانت بلون خضرتها الناضر بل وأصبحت جذوعها أكثر رشاقة وبساقة بما يتناسب والبيئة المحيطة. فرّ الراعون وتأقلمت الغريبة في بلاد الغرباء حتى أصبحت جزءاً منهم وقد لا تتذكّر النخلة الإسبانيّة بأن أصولها عربيّة أو ربّما تتنكّر لتلك الأصول بعد أن شهدت أحفاد الجدود غرباء في بلدانهم وهم يحاولون الفرار من أرض الجدود للحاق بتلك النخلة التي كان أجدادهم قد آتوا بها إلى هنا فغدت جزءاً من الثقافة وطرفاً مهمّاً في المكوّن لا يمكن الإستغناء عنه بالنسبة لمن تبنّاها وأواها فأحبّها وعشق طلّتها الهيفاء.
مر بمخيّلتي شريط الذكريات كما كنت قرأته في كتب التاريخ وكما أعطي لي من طرف واحد بدون أن أتمكّن من الإطّلاع على الوجه الآخر من صفحات التاريخ وشعرت بالكثير من الحنين إلى الماضي الذي لم أعشه لكنّني ظننت بأنّني عاصرته من عمق عشقي له فإختلطت العواطف بالآهات وأحسست برغبة في البكاء على الماضي الجميل، لكنّني تمالكت نفسي فليس من شيم الرجال البكاء على الأطلال خاصّة بين الغرباء أو في بلاد أضحت غريبة بعد أن كانت موطناً.
حدّقت بعيداً في الفضاء وخاطبت برشلونة وهي تتمخطر في نظري بثياب الأندلس: أيا برشلونة.... هل لك أن تعيدي لنا بعض من مجدنا أو أنّك ربّما فقط تنهلينا بعض من مجدك.... فحسبنا أنّنا نقدر على إشتمام عبق تاريحنا خلال أنفاسك.
وأنا أسبح في عالم الخيال ذلك أوقف سائق التاكسي العربة ونزل منها ليجر حقيبتي ويدعوني بكل تأدّب للحاق به. دخلت إلى باحة الفندق ولا أريد هنا أن أصف ما رأيت فهو لا يختلف عن أي مكان آخر سبق لي الذهاب إليه، لكنّني أعود وأكرّر إعجابي بذلك الشكل من العمل المنظّم والمدروس والمتكامل بحيث يشعرونك بمقدار إحترامهم لك بغض النظر عمّن تكون ومن أين أتيت وبأي معتقد تؤمن. هم يرونك فقط كإنسان متعلّم وأتيت لتلقّي المزيد فيعملون على تمكينك من ذلك وأكثر بكل ما يستطيعون وبإبتسامة معها كلمة طيّبة.
المؤتمر... مخ 2014
ربّما يعتبر هذا المؤتمر أوّل تغيير أشهده في المؤتمرات الطبيّة التي تعودت على حضورها، فقد كان مختلفاً تماماً عن سابقاته وذلك حكماً بنوعيّة المادّة التي نوقشت خلال مجريات برنامجه الدسم والمركّز. كذلك فقد قال عنه منظّموه بأنّه الأوّل من نوعه لكنّه سوف يكون بداية لمثل هذا النوع من الملتقيات.
هذا المؤتمر العلمي أعاد عجلة التفكير إلى الأصول... الأسباب والبادئات بدل التركيز على العلاج واللاحقات. كانت الفكرة رائعة، وكان المتحدّثون أروع. كان هذا المؤتمر الطبّي عن مرض التصلّب المتعدّد Multiple Sclerosis وهذا المرض يعتبر من بين الحالات المستعصي علاجها أو الحدّ من تطوّرها رغم المليارات التي أنفقت في هذا المضمار.
المشكلة في هذا المرض أنّنا برغم كل البحوث التي أجريت لم نتمكّن من معرفة أسباب المرض ولم نعرف المسبّبات، وبذلك إستعصى علينا العلاج. كذلك فإن هذا المرض كثيراً ما يتخذ أنماطاً مختلفة وأحياناً مغايرة لبعضها وبذا إستعصت كل محاولات البحث عن علاج له يشفيه أو يوقف تسارع تطوّره ومن ثم تطوّراته وتأثيراته السيئة جدّاً على حياة المصاب به.
كان التحدّي كبيراً هذه المرّة وكانت المهمّة أكبر بكثير من المتصوّر، غير أن حماس المنظّمين له ونوعية المدعوّين للمساهمة فيه وأولئك الذين كانوا من زبانيّته مثل حالتي، مضافاً إلى ذلك تلك الإستعدادات الكبيرة التي تمّ تسخيرها لإنجاح هذا المؤتمر... كل هذه العوامل والكثير غيرها أدّت إلى نجاح باهر له كما عبّر عن ذلك جميع من شارك فيه.
في هذه الفنادق الثلاث كانت إقامة المشاركين
وفي هذه المنطقة الساحليّة الجميلة كان المؤتمر
وفي هذه القاعات كانت الأدمغة تتناقش
حضرت وجوه لامعة هذا المؤتمر من أمثال خافير مونتالبان من إسبانيا، ألن تومسون من بريطانيا، ماريا بايا أماتو من إيطاليا، ماري بيكر من بريطانيا، فريدريك باركوف الأخصائي الأشعي المشهور من هولندا، أليكسي بوكيو من روسيا، سيدهارثان تشاندران من بريطانيا، أولغا سيكاريللي من بريطانيا، خافير ديقيليبّي من أمريكا... وغيرهم كثير. كان عدد المحاضرين 38 من الآساتذة والباحثين في معظم الدول الأوربيّة وكلّهم من المتخصّصين في مرض التصلّب العضلي المتعدّد.
كان أيضاً من نجوم المؤتمر مصاباً بهذا المرض كشاهد عيان مع زوجته التي أعتبرت العائل الوحيد له طيلة مدّة مرضه التي تعود إلى عام 1987.
على يسار الصورة السيّد جون جولدن وزوجته إليزابيث جولدن على جانبه وهم يجلسون مع الآساتذة المحاضرين وهو يروي قصّة معاناته مع المرض وكيف إستطاعت زوجته الوقوف إلى جانبه ودعمه طيلة تلك السنوات الصعبة. كانت القصّة مؤثّرة جدّاً وقد أبكت الكثير من الحاضرين بما فيهم بعض الآساتذة الكبار. كانت هذه ظاهرة فريدة بالنسبة لي، حيث تم الإتيان بشاهد عيان في مؤتمر ضخم مثل هذا، وكان بالفعل أهم فقرات هذا المؤتمر من وجهة نظري.
حضر هذا المؤتمر حوالي 400 متخصّص في مرض التصلّب المتعدّد من مختلف الدول الأوروبيّة، وكان الحضور إيجابيّاً بالمعنى الصحيح.
وختاماً... يبلغ عدد المصابين بهذا المرض في العالم الآن 2.3 مليون مصاب، وكان الإتحاد الأوروبي قد أنفق في عام 2010 ما مجموعه 8 مليار يورو منها ما يقارب من مليار يورو على مرض التصلّب المتعدّد لوحده.
وختاماً أيضاً.... ذكر ثلاثة من الآساتذة المحاضرين بأنّه في خلال 10 سنوات من الآن سوف يتم علاج مرض التصلّب المتعدّد نهائيّاً وذلك من خلال التطوّرات الحثيثة في مجال أبحاث الخلايا الجذعيّة وإعادة نمو الأعصاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك