كلمة الدستور ليست عربية الأصل ولم تذكر القواميس العربية القديمة هذه الكلمة، ويعتقد بأن الكلمة فارسية ( دست= القاعدة، وَر= صاحب)، ويقصد بها التأسيس أو التكوين أو النظام.
في المبادئ العامة للقانون الدستوري يعرّف الدستور على أنّه مجموعة المبادئ الأساسيّة المنظّمة لسلطات الدولة والمبيّنة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها بدون التدخل في المعتقدات الدينية أو الفكرية. وبمعنى آخر، الدستور هو رزنامة من الأسس التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشئون الداخلية والخارجية.
من هنا أرى بأنّ عمليّة إقحام الدين في ديباجة الدستور يعد بمثابة فرض الأمر الواقع من قبل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على معتقد الناس.
وفي عمليّة إستباقيّة قصد منها يقيناً وضع رجال الدين في ليبيا أيديهم على نظام وطريقة وشكل الحكم في هذا البلد، أصدر مجلس الدراسات والبحوث العلمية بدار الإفتاء الليبية نهاية ديسمبر 2013 قراراّ يقضي "بأنّ الشريعة الإسلاميّة هي مصدر أساسي للتشريع، وأنها "مادة محصّنة" وهي "فوق الدستور" لا "يجوز الإستفتاء عليها".
المؤتمر الوطني هو بدوره أصدر قراراً غامضاً حاول السيّد عمر حميدان توضيحة، لكنّه تلعثم كثيراً في محاولته توصيل المقصود من ذلك القرار. قرار المؤتمر الوطني أعتبر تأكيداً لقرار دار الإفتاء الآنف ذكره، وتلعثم الدكتور حميدان كثيراً فيما يتعلّق بعبارة "فوق الدستور".
من هنا فإنّني أرى بأنّ هذا الدستور الذي تشرع هيئة الإنتخابات في ليبيا الآن وبعجالة تامّة على البدء في إنتخابات لجنته الدستوريّة التي بدورها كانت محل أخذ ورد، وكان فرض تشكيلتها المحاصصيّة (الإقليميّة) قد تمّ بقوّة السلاح كما يعرف أغلب الليبيّون والليبيّات.
كذلك... فإنّ إختيار الوقت الذي ربّما كانت فيه بلادنا في أسوأ أحوالها منذ 20 أكتوبر 2011 من حيث الفوضى العارمة وسيطرة الميليشيات على القرار السياسي في المؤتمر والحكومة على حد سواء، أضف إلى ذلك السيطرة المسلّحة على منابع ومصبّات النفط والغاز وموانئ التصدير، وعمليات قطع الكهرباء والمياه والإتصالات، وكذلك عمليات الإغتيالات اليوميّة لخيرة ضبّاط الجيش والشرطة والأمن في بنغازي ودرنة وما جاورهما... وعمليّات السطو والسيطرة من قبل مجموعات مجهولة الهويّة لكنّ أغلب الظن بأنّها تتبع الميليشيات المسلّحة والتنظيمات الدينيّة على الوزارات والمقرّات السياديّة التي تجري الآن... هذه الأجوء الحزينة إختارها المؤتمر الوطني وبضغط كبير مع إصرار أكيد من التنظيمات المستفيدة لتكون هي الفترة التي يتم خلالها التسجيل لإنتخابات لجنة الدستور تلك، ثم إجراء الإنتخابات نفسها في منتصف فبراير القادم في حين أن الأجواء العامة تزداد إحتقاناً يوما بعد يوم، وعجز الحكومة الذريع في المحافظة على أمن المواطن أو تأمين مستلزماته اليوميّة من كهرباء وغاز ومياه وإتصالات، ثمّ إقدام المؤتمر الفاشل بحسابات أكثر من 80% من الشعب الليبي على إصدار قرار يقضي بالتمديد لإستمرار صلاحيّاته حتى نهاية ديسمبر 2014... كل هذه العوامل مضافاً إليها عدم تحمّس سكّان المناطق الشرقيّة للمساهمة في هذه الإنتخابات ومقاطعة الإخوة الآمازيغ لها كليّة (ترشّح وإنتخابات) توحي بأنّ إنتخابات لجنة الستّين سوف لن تجر حسب البرنامج المعد لها، وعلى أنّها سوف تصاب بإنتكاسة كبيرة جدّاً قد تكون لها مردودات سلبيّة على عموم أفراد الشعب الليبي.
هناك عامل آخر يجب التنويه عليه وهو: يبلغ عدد الليبيّين والليبيّات الذين يحق لهم قانوناً الإنتخاب والترشّح 3.64 مليون بناء على إعتبار أن 18 سنة هي الحد الأدنى للمشاركة في العمليّة الإنتخابيّة. من أجل أن يعبّر الدستور عن رأي غالبيّة الشعب الليبي يقتضي مشاركة مالا يقل عن "ثلثي" ذلك العدد في إنتخابات لجنة الدستور ( وهم أنفسهم من يحق لهم وفقط إبداء الرأي في الدستور المقترح والمشاركة في الإقتراع عليه) وهذا يعني إقدام مالا يقل عن 2.42 مليون مواطن ومواطنة على التسجيل لهذه الإنتخابات. العدد المعلن عند قفل باب التسجيل هو 1.02 مليون فقط.. أي 28% فقط من مجموع المسموح لهم بالإنتخاب والترشّح.
كما يجب ألاّ ننسى بأنّه هناك أكث من مليون ليبي وليبيّة هم الآن في عداد المهجّرين (في داخل لبلد وفي خارجها) وهؤلاء سوف يعتبرون من المحرومين في المساهمة في الترشّح والتصويت للجنة إعداد الدستور وللمساهمة في تديل نصوص الدستور بعد إقتراحها، وكذلك في عملية الإقتراع الشعبي على الصيغة النهائيّة للدستور. هؤلاء هم من الليبيّين والليبيّات ومن حقّهم المساركة في صنع مستقبل بلادهم. يضاف إلى ذلك عمليات الإنقسام الداخلي والصراعات القبليّة بين مختلف المناطق في ليبيا وخاصّة في منطقة الكفرة وفي العجيلات... كيف يستطيع أمثال هؤلاء المساهمة في صنع مستقبل بلادهم وهم يمسون ويصبحون على التطاحن والضغينة؟.
هناك أيضاً مجمعة لا يمكن الإستهانة بهم وهم "القيدراليّون".. هؤلاء أيضاً سوف يقاطعون إنتخابات لجنة الدستور وهم من حقّهم أن يشاركوا في هذه العمليّة الوطنيّة والتي قد تثنيهم عن الإصرار على فرض النهج الفيدرالي على ليبيا.
كل هذه الظروف مجتمعة وغيرها كثير تجعل من عمليّة إقحام الدستور في هذه الفترة بالذات هو محاولة جادّة من بعض الأطراف (الجماعات الدينيّة ومعها الميليشيات التي تحميها وتدافع عنها) للإستحواذ على العمليّة الإنتخابيّة بكل جوانبها حتى تضمن هذه الجماعات فوز مرشّحيها للجنة الدستور ومن ثمّ يتم نسج مواد الدستور وفق تصوّر دار الإفتاء ومنهج الجماعات الدينيّة المتشدّدة التي لا تؤمن بالعمليّة الإنتخابيّة من حيث الأساس ولا تؤمن بشئ إسمه الديموقراطيّة، وما تشارك هذه المجموعات في العملية الإنتخابيّة إلاّ مرغمة بفعل الضغط الشعبي الذي يحاول الدفع نحو تغليب العصرنة على العقليّة الدينيّة التي تؤمن بالحفاظ على ثقافة الماضي والإلتزام بأبجديّاته التي تجاوزها الزمن.
من هنا... وقناعة منّي بأنّ الخداع والكذب والتدليس سوف تكون سمات المرحلة المواكبة لعمليّة إننتخاب لجنة الدستور والإقتراع على مواد الدستور بعد تأسيسها فقد قرّرت عن قناعة بأنّني لن أشارك في هذه العمليّة على وضعها الحالي حتى لا أكون مشاركاً في الإضرار بمستقبل هذا الوطن ومستقبل أجيالنا القادمة. وبناء عليه فإنّني إنتهز هذه المناسبة لأطلب من جميع الوطنيّين الشرفاء والوطنيّات الشريفات الذين يحبّون ليبيا بصدق بأن يمتنعوا عن المشاركة في هذه العمليّة المشبوهة، مع تأكيدي على إيماني الراسخ بالنهج الديموقراطي في بلادنا على إعتبار أنّه الخيار الوحيد لبناء دلة عصريّة ومتمدّنة.
وفّقنا الله في مساعينا الصادقة من أجل خدمة بلدنا بدون إنتظار أي نوع من الجزاء أو العطايا أو المكاسب الآنيّة على حساب الوطن... والله على ما أقول شهيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك