من أجل أن يعيش الإنسان بمعطيات الواقع الذي يعيش فيه عليه أوّلاً أن يعترف به ثم يتناغم معه ثم من خلال ذلك يحاول بأن يكون جزءاً منه..... تلك هي فلسفة الحياة وتلك هي "العقلانيّة".
لا يمكنك أبداً أن تحكم قوماً من خلال التسلّط عليهم أو من خلال إرغامهم على تقبّل أشياء هي ليست من واقعهم وليست من إهتماماتهم اليوميّة.
لقد حاول المستعمرون في بداية القرن الماضي إحتلال دول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة، وما إن تمكّنت تلك الدول من فرض همينتها على الشعوب التي إستعمرتها حتى بدأت كل منها (الدول المستعمرة) في فرض ثقافتها على الناس، لكن الناس رفضت الإنصياع وحتى في وجود القهر والتغصيب والإذلال بقوّة السيطرة والطغيان. تحرّرت الشعوب وبدأت في العودة إلى إحياء ثقافاتها ومعطيات حياتها التي تنبثق من واقعها ومعتقداتها.. وتلك هي سنّة الحياة.
بعد ثورة الربيع العربي وجدت الكثير من الجماعات الدينيّة المتشدّدة والتي كانت مضطهدة هي نفسها في زمن الديكتاتوريّات... وجدت المجال مفتوحاً أمامها لتبدأ في تنفيذ أهدافها ونشر رسالاتها التي تظن بأنّها من أجل إصلاح الناس وهدايتهم إلى التي هي أحسن. كانت هذه الجماعات مضطهدة في عهد الديكتاتويّات لأنّها كانت تهدّد تلك الأنظمة وذلك بإستغلالها عنصر الدين الذي هو إعتقاد المجتمع ويمثّل جزءاً كبيراً من ثقافته ومن فقد حظيت تلك الجماعات بالتعاطف الشعبي على أساس أن الكثير من الأنظمة الديكتاتورية كانت قد حاربت الدين وضيّقت على الناس في عيشهم وفي معتقداتهم.
تعاطفت الشعوب مع الجماعات الدينيّة لأنّها كانت ترى فيها ومن خلالها بصيص الأمل نحو عالم مختلف تحترم فيه القيم الإنسانيّة وتحترم فيه حريّة العبادة وحريّةالإنسان.
حظيت الجماعات الدينيّة في البداية بالكثير من التأييد والتعاطف الشعبي، لكن هذه الجماعات عجزت عن الإستفادة من ذلك التناغم الشعبي وإستغلاله بالطريقة المثلى. الجماعات الدينيّة إكتشف الناس فيما بعد بأنّها هي نفسها لها أجنداتها ولها طريقتها في التفكير فبدأت الجموع بالنفور منها وإستهجانها في الكثير من الأحيان.
عرفت الجماعات الدينيّة بأن طريقة تفكيرها والكثير من تصرفاتها لا تتناغم مع طموحات الناس فبدل أن تنزل إلى الشارع لتصبح جزءاً من العموم إعتبرت نفسها من الخصوص فتكبّرت على الناس وأخذت تنعتهم بالجهل وعدم الفهم وفي بعض الأحيان بالتنكّر لها ولعلم وأفكار قادتها ورموزها. بدأت الهوّة بين الناس وهذه الجماعات الدينيّة تتسع رويداً رويداً، وبدأت الثقة بين الطرفين تتناقص تدريجيّاً حتى وصلت إلى حد التوجّس والخوف وربما الإرتعاب أيضاً، خاصّة وأن الكثير من المحسوبين على هذه الجماعات كانوا قد تصرّفوا بطريقة وبشكل لا يختلف عن تصرّفات أولئك الحكّام الذين أسقطهم الشعب وأنهى أنظمة حكمهم.
بدأت الجماعات الدينيّة تجهّز نفسها لمرحلة تجد فيها نفسها في مواجهة جموع الناس على إعتبار أن هؤلاء الناس في نظر هذه الجماعات المتشدّدة هم ربّما من "الكفرة" أو "العلمانيّين" أو " المخمورين ومتعاطي المخدّرات". بدأت الجماعات الدينيّة المتشدّدة تتسلّح وتتجّهز ليوم المنازلة ولكن هذه المرّة مع الشعب نفسه.
حدث مثل هذا في بنغازي، وحدث في درنة، وسوف يحدث مستقبلاً في الزاوية وفي إجدابيا، وربما في سبها أيضاً. تحوّلت الجماعات الدينية المسلّحة إلى طوائف غريبة على المجتمع وربما معادية لأحلام الناس وتطلّعاتهم في الحريّة والتقدّم والإنطلاق نحو اللحاق بالعالم الذي تجاوزنا وبدأ في الإبتعاد عنّا. أصبحت هذه الجماعات المتشدّدة بسبب طريقة التفكير عند قادتها وزعمائها إلى تتحوّل إلى حجر عثرة في سبيل بناء الدولة المدنية والعصرية في ليبيا، وربما كان تصريح المدعو الشيخ محمود البرعصي أحد قادتها والنافذين فيها من أن الديموقراطيّة كفر والإنتخابات بدعة غربيّة، وبأنّ الجماعات الدينية المتشدّدة من أمثال "أنصار الشريعة" يعتبرون الحكومة "كافرة" ويعتبرون أنفسهم في حلّ من هذه الحكومة ولا يخضعون لسلطتها وهو ما يعني في عرف السياسة "إنشقاق" على الدولة وخروج على الإجماع الشعبي أو لنقل الإختيار الشعبي والذي تمثّل في إنتخابات 07\07\2012... أي أن هذه الجماعات المتطرّفة والتي تحمل كل أنواع السلاح الفتّاك والمدمّر أصبحت الآن بمثابة العدو المباشر للشعب والمتربّص به إنتظاراً لمواجهة لا يرغب فيها الشعب لكنّه قد يضطر للدخول فيها إن وصل الأمر إلى حد تهديد وجوده وكيانه.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: وما هي الخطوة القادمة؟. كيف يكون المخرج، وماذا على جماهير الشعب أن تفعل لبدء رحلة البناء بعيداً عن المعتقدات والمفاهيم الغريبة للجماعات الدينيّة المتشدّدة التي يبدو أنّها تركت مهمة الدعوة وبدأت في إمتهان السياسة بهدف فرض أفكارها وطريقة تفكير قادتها التي لم تجد قبولاً عند عموم الناس الذين يعيشون عصر الإنفتاح وعصر ثورة المعلومات والعولمة، وهذه المعطيات المعاصرة تحتّم التعايش مع العالم المحيط بنا وفق مفاهيم مشتركة تشمل إحترام المعتقدات وإحترام الكيانات وتجنّب المواجهات مع غيرنا ممّن هم يختلفون معنا بقدر المستطاع طالما أنّهم لا يؤذونا ولا يتدخّلوا في إختياراتنا.
أنا أعتقد بأن الكرة أصبحت الآن في أيدي الجماعات الدينية المتشدّدة، وبأنّه أصبح لزاماً على هذه الجماعات أن تتخلّى عن فكرة فرض أفكارها بالقوة على الناس وأن تعود للتفاعل مع الشارع لتصبح جزءاً منه على أسس إحترام سيادة وكيان الدولة التي ترسمها الجماهير من خلال العملية الديموقراطيّة التي أصبحت اليوم جزءاً من الحياة العصريّة مثل الأكل والشرب والنكاح والإنجاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك