حين خرج الشيخ الصادق الغرياني "مفتي الديار الليبيّة" يوم الخميس 27 ديسمبر 2012 على قناة "ليبيا الوطنيّة" الفضائيّة وهو يطلب من الليبيّين والليبيّات في بنغازي بعدم الخروج في المظاهرة المعلن عنها سلفاً والتي كان عنوانها "بنغازي لن تموت"... حين خرج على القناة الفضائيّة، كان يخوّف الليبيّين والليبيّات من "الفتنة" و"الإقتتال" و"الفوضى"، وقال بأن هناك جهات مسلّحة سوف تخرج في هذه المظاهرة وهي عازمة على إحداث الفتنة في بنغازي.
وقال الشيخ صادق الغرياني أيضاً بأن هذه المظاهرة المزمعة يوم الغد يعتبر الداعون إليها من المجهولين.. أي أنّهم حسب بيان الشيخ الصادق الغرياني "جهات غير إعتباريّة" وهم يعملون على نشر الفوضى في بنغازي مما قد يؤدّي إلى قتال وشجار بالسلاح قد يصبح من المستحيل السيطرة عليه. وقال الشيخ الصادق الغرياني كذلك بأن بنغازي مليئة بالسلاح وبأن فئات مختلفة غير معروفة ولم تعلن عن نفسها أو إنتمائها سوف تحدث الفوضى وسوف تدفع إلى الإقتتال ونشر الفتن.
أصدر الشيخ الصادق الغرياني فتوى تحرّم الخروج في هذه المظاهرة وأصدر أمراً لجميع فقهاء المساجد في ليبيا وبتغازي على وجه الخصوص بأن يحاولوا منع الناس من الخروج في هذه المظاهرة التي قصد منها "الفتنة" كما قال.
الذي عرفناه فيما بعد أن هذه المظاهرة علنيّة، وبأنّها كانت قد تم الإعلان عنها بكل صراحة ووضوح على شبكة التواصل الإجتماعي "الفيسبوك"، وبأن الداعين إليها كانوا قد أعلنوا عن أنفسهم وكانت تشترك في الدعوة إليها الكثير من تنظيمات المجتمع المدني، وبأن دار الإفتاء كانت قد أعلمت بهذه المظاهرة وكذلك الجهات الأمنيّة.... كل هذه الحقائق وغيرها أثبتت بكل جلاء بأن الشيخ الصادق الغرياني كان "يدلّس" على الليبيّين والليبيّات وفي هذا سابقة خطيرة وأمر جلل.
المهم.. أن المظاهرة خرجت في بنغازي، وكانت أكبر بكثير مما توقّعه المنظمون لها، بل إن الكثير من المنظّمين لهذه المظاهرة قالوا بأن "فتوى" الشيخ الصادق الغرياني كانت قد أفادتهم كثيراً بحيث خرجت أعداد كبيرة من جماهير بنغازي من باب التحدّي لتلك الفتوى التي رأوا فيها ظلماً وإجحافاً.... بل إن بعض المتظاهرين قال بأن الشيخ الصادق الغرياني ربما لم يكن يعرف شيئاً عن تلك المظاهرة وبأن المعلومات كانت ربّما قد أعطيت له من قبل المحيطين به بهدف إفشال هذه المظاهرة وبأي ثمن.
قال أحد المشاركين في المظاهرة في مقابلة لقناة "ليبيا الأحرار" التي كانت متواجده في هذه المظاهرة: المفتي يعتبر طاعناً في السن، ونظره ضعيف، وهو لا يستطيع الخروج للشوارع نظراً لكبر سنّه وبذا فهو يعتبر مغيّباً بالكامل عن حركة الشارع، وبأن كل معلوماته تأتيه من المحيطين به وهم شلّة من الإخوان المسلمون وبعض السلفيّين... وربّما من الجماعة الإسلاميّة الليبيّة المقاتلة.
قال أحد المتظاهرين بأنّه يطلب من الشيخ الصادق الغرياني بأن يعتذر لأهالي بنغازي ثم يعتزل فهو غير كفوء لأن يكون مفتياً بعد الذي حدث.
وقال متظاهر آخر: إن الكثير من شيوخ الدين يعيشون في عالمهم الخاص معتزلين عن الشارع ولا يعرفون ماذا يجري في البلد.
وقال متظاهر آخر: في عهد الطاغية القذّافي لم تكن هناك إدارة، ولم يكن هناك رؤية، ولكن كانت توجد قيادة قويّة؛ أمّا في الوقت الحاضر فلا توجد إدارة، ولا توجد رؤية، ولا توجد قيادة.
أنا شخصيّاً بدأت أشك في نوايا هذا الرجل... الشيخ الصادق الغرياني. من الواضح بأنّه يدعم الإخوان وبأي ثمن، وأظنّه مستعد
لتوجيه كل شئ في ليبيا من أجل خدمة الإخوان المسلمون. سبق له وأن خرج علناً يساند
مرشّح الإخوان الدكتور أبوشاقور، وكان قد خرج قبلها ليلة الإنتخابات العامة في 17
يوليو 2012 ليهاجم الدكتور محمود جبريل بكل قوّة داعياً الليبيّين إلى إنتخاب
مرشّحي الإخوان. رجل في منزلة الشيخ الصادق الغرياني كان يجب عليه أن يترّفع عن
التنظيمات الحزبيّة والطوائف الدينيّة حتى وإن كان يتعاطف معها، فهو يجب أن يكون
لكل الليبيّين والليبيّات بغض النظر عن إنتماءاتهم ومعتقداتهم.
الشيخ الصادق
الغرياني كما نعرف كان قد بارك المراجعات التي إشترطها الطاغية القذّافي على
الجماعة الليبية المقاتلة، وكان قد دعاهم لقبولها رغم أن تلك المراجعات كانت تشكّل
إهانة واضحة للجماعة الإسلاميّة الليبيّة المقاتلة من ديكتاتور كان في أوج قوّته
وجبروته حينها. كذلك الشيخ الصادق الغرياني كان قد خرج ومن على قناة القنفود ليطلب
من الليبيّين عدم الخروج على الحاكم ( أي عدم الخروج ضد الطاغية القذّافي) محذّراً
إيّاهم من الفتنة والقتل. كان الشيخ الصادق الغرياني بذلك قد شارك صراحة وعلانيّة
في العمل على إطالة نظام حكم الطاغية القذّافي ( هل يطبّق عليه قانون العزل
السياسي الذي أيّده بكل قوّة لأنّه من صناعة تنظيم الإخوان المسلمون ؟).
هناك نقطة
أخرى علينا الإنتباه إليها وهي إغتيالات بنغازي التي من المرجّح بأنّ التنظيمات
الدينيّة المتشدّدة والمنتشرة في تلك المنطقة من السلفيّين، والإخوان، وأنصار
الشريعة وهم جميعهم من المتعاطفين مع تنظيم القاعدة... من المرجّح بأن هذه
التنظيمات الدينيّة هي من يقف وراء عمليات الإغتيال لرجال الشرطة والجيش والأمن لأن
هذه التنظيمات لا تريد أن ترى ليبيا دولة عصريّة لها سلطات واضحة، ولها شرطة وجيش
وأجهزة أمن؛ وقد تكون تلك هي الأسباب التي دفعت الشيخ الصادق الغرياني لإصدار
"فتوى" بعدم خروج الناس في بنغازي هذا اليوم للمطالبة بالكشف عن الحقائق
بخصوص إغتيالات بنغازي وما حولها.
على الجميع - وفي بنغازي بالذات - بأن يكونوا عيوناً ساهرة على أمن بنغازي، وأن يقوموا بالإبلاغ عن كل أشخاص يشتبه فيهم للجهات الأمنيّة حتى يمكن تفادي مزيداً من القتل وهدر كوادر وطنيّة نحن في أمسّ الحاجة إليها وإلى خبراتها المهنيّة. علينا أن نتحمّل المسئوليّة جماعة، فالوطن هو وطننا جميعاً، وبنغازي هي مدينتنا الجميلة التي نعتز بها.
على الجميع - وفي بنغازي بالذات - بأن يكونوا عيوناً ساهرة على أمن بنغازي، وأن يقوموا بالإبلاغ عن كل أشخاص يشتبه فيهم للجهات الأمنيّة حتى يمكن تفادي مزيداً من القتل وهدر كوادر وطنيّة نحن في أمسّ الحاجة إليها وإلى خبراتها المهنيّة. علينا أن نتحمّل المسئوليّة جماعة، فالوطن هو وطننا جميعاً، وبنغازي هي مدينتنا الجميلة التي نعتز بها.
أعتقد بأن الشيخ الصادق الغرياني كان قد أضرّ
بنفسه وبزملائه رجال الدين بفتواه "القاصرة". نعم... اقول قاصرة لأنّها
لم تكن على بيّنة. قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }. ما هي مصادر
معلومات الشيخ الصادق الغرياني ليتّهم العازمين على التظاهر في بنغازي على أنّهم
من دعاة الفتنة وعلى أن تلك المظاهرة كانت ستؤدّي إلى إقتتال بين المتظاهرين؟. كان
على الشيخ الصادق الغرياني أن يسأل ويتحرّى (يتبيّن) من المنظّمين للمظاهرة عن
نواياهم وعن مقاصدهم قبل أن يصدر فتواه التي أضرّت به وبسمعته أشد الضرر. إن فتوى
الشيخ الصادق الغرياني المبتورة أدت بكل تأكيد إلى دعم موقف الشباب المتعلّمين
والذين يعيشون عصرهم الذي يتميّز بالعلم والمعرفة والتعامل مع التقنية (الذين
يوصمونهم ظلماً بالعلمانيّين... مع عدم معرفتهم بالمعنى الحقيقي للعلمانيّة التي
لا تعني أكثر من التحرّر من عقد الماضي والإعتماد على العلم والعقل في تسيير شئون
الحياة) وإلى زعزعة موقع رجال الدين في عقول وقلوب الشباب الذين يحتاجون إلى من
يفهمهم ويفهم طموحاتهم في هذه الحياة الدنيا بدل نعتهم بالعلمانيّين ( الطاغية
القذّافي كان قد نعت الشباب بالجرذان... ولا فرق). أنا أعتقد بأن دار الإفتاء في
حاجة ماسة وسريعة إلى إعادة نظر من حيث التحديث وإعادة الهيكلة بحيث تدخل عليها
تعديلات تمكّنها من دخول القرن ال21 بما في ذلك الشفافيّة والصدق وفوق كل شئ
إعتماد مبدأ الإنتخاب الحر والنزيه لمن يرأسها (المفتي) وكذلك تبنّي عامل التناوب
على السلطة فيها (على عكس إخوتنا في مصر الذين يريدون وظيفة المفتي أبديّة ولا
تخضع للعزل أو التغيير أو الإنتخاب أو حتى المساءلة... بمعنى أنّهم يسعون إلى
إعتبار المفتي منزّهاً ولا تجوز محاسبته). على هيئة الإفتاء أن تختار بين إثنين:
إمّا أنّها تتفرّغ لشئون النصح والإرشاد في مجال القضايا الدينيّة وتبتعد عن حشر
نفسها في قضايا السياسة ( وهو الأسلم)، أو أنّها تدخل العصر الحديث من حيث النزاهة
والديموقراطيّة والخضوع للمحاسبة والسير على هدى الشفافيّة. لا أعتقد بأنّه سوف
يكون من الصعب على فقهاء الدين في بلادنا بأن يجتمعوا ويتناقشوا بشأن تحديث دار
الإفتاء بما يتواءم مع التغييرات التي حدثت في ليبيا منذ ال17 من فبراير 2011.
إن الذين يقفون
بين الناس وحريّتهم في التعبير عن أنفسهم هم نفر لا يعشقون الحرية ولا يحبّون
التحرّر، ذلك لأنّهم يرون تحرّر الناس ربّما هو وسيلة للخروج على الطوق. من حق كل
مواطن أن يعبّر عن رأيه، وعن تطلّعاته، وعن أحلامه بالطريقة التي شاء مع الحفاظ
على أخلاق وثقافة المجتمع الليبي.
بدون شك هناك إلتزامات أخلاقيّة ووطنيّة لا
اعتقد بأن أي من الليبيّين واالليبيّان هم بغافلين عنها، منها على سبيل المثال عدم العبث
بممتكات الشعب، والحفاظ على أمن البلد، والإلتزام بالقيم والأخلاق الليبيّة. هذه
الأساسيّات تعتبر جزءاً من تركيبة الإنسان الليبي وهي جزءاً من ثقافته التي كبر
وترعرع عليها منذ الصغر، ولا تحتاج إلى "أوصياء" ليعلّموه إيّاها. على
السيّد المفتي وبقية رجال الدين أن يلتهوا بمهامهم وأن يتركوا الناس لتعبّر عن
رأيها كما تريد.
يكفينا تدخّلاً في حياتنا يا من تنصّبون من أنفسكم أوصياء على
الدين، فنحن نضجنا ونعرف واجباتنا وحقوقنا تجاه ربّنا وتجاه بلدنا وتجاه أهلنا.
مظاهرة بنغازي السلميّة
تدحض إدعاءات المفتي وتحوّله إلى إنسان منبوذ في ليبيا. عليه أن يخرج على "قناة
"ليبيا الوطنيّة" للإعتذار لكل الليبيّين والليبيّات، ثم بعد ذلك عليه
أن يستقيل إن كان بالفعل يحترم نفسه.
ونقطة أخيرة أهمس بها في أذن الشيخ الصادق الغرياني... تمنّيت لو أن الشيخ الصادق الغرياني لم يقحم نفسه في السياسة، ولو أن كلمته كانت قد إقتصرت على النصح والتوجيه. ما كان للشيخ الصادق الغرياني أن يتحدّث عن العزل السياسي.... فتلك قضيّة تهم السياسيّين ولا علاقة لدار الإفتاء بها. على الشيخ الصادق الغرياني - وكل رجال الدين - أن يقتصر دورهم على الوعظ والإرشاد وأن يكتفوا بذلك حتى يحافظوا على إحترام الناس لهم.
أمّا بالنسبة لشباب وشابّات بنغازي فحرصاً منهم على نجاح مظاهرتهم، كان التنظيم في هذه المظاهرة قمة في الروعة، ولم يرفع فيها السلاح اللهم إلا من الشرطة وبعض أفراد الصاعقة الذين طلب منهم المتظاهرون بالحضور لحماية المظاهرة وحماية المتظاهرين. لم تطلق فيها ولا رصاصة واحدة، ولم تحدث فيها أية مشاكل من أي نوع.
إنتهت المظاهرة عند الساعة الخامسة والنصف تماماً كما كان مخطّطاً لها، وعاد كلّ إلى بيته سعيداً وفرحاً بالمشاركة في تلك المظاهرة التي حاربها الشيخ الصادق الغرياني والكثير من رجال الدين وخطباء المساجد في ليبيا كلّها وبنغازي على وجه الخصوص.
خرج شباب وشابّات بنغازي إلى شوارع وميادين المدينة ليقوموا بطلاء مبانيها وبعض المعالم في ميادينها بألوان زاهية تعبيراً عن حبّهم للحياة، وتأكيداً على أن بنغازي سوف لن تموت مهما حاول المعادون للتقدّم أن يوقفوا مسيرة البناء فيها.
وختاماً... بالفعل فإنّ بنغازي سوف لن تموت، وسوف يبرهن أهالي بنغازي والمتعلّمين فيها على أنّهم هم من سوف يقود مسيرة التغيير فيها، وليس أولئك المنغلقون على أنفسهم ومن هم ما زالوا وللأسف يعيشون في الماضي السحيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك