كثيراً ما يتوارد على
لسان الليبيّين (سياسيّين ومثقّفين) بأن ليبيا "تعوم على بحيرة من
النفط" بمعنى أن ليبيا غنيّة وعليها أن تنفق المزيد من الأموال. يقول لك عموم
الليبيّون بأنّ بلدهم غنيّة وبأنّهم سوف يعيشون أمراء في بيوتهم لو أن أموال ليبيا
تم توزيعها عليهم بالتساوي..... جميل ذلك وحالم ومتفائل،
لكنّه يقيناً ليس بالواقعي ولا هو بالصحيح.
حين قامت ثورة 17 فبراير
لم يجد الثوّار أموالاً ولا ثراءً ولا حتى ما يسد الرمق من الطعام، فما بالك
بالدواء وبوسائل الإتّصال. عزف الليبيّون نغمة "الغناء" وبأنّ أموال
ليبيا مهرّبة في الخارج... وبالفعل صدقّهم العالم من حولهم فبدأت الهبات تأتي،
والمساعدات تتقاطر، وبدأت شحنات الأسلحة تهرّب إلى الثوّار رغم الحصار.
إستطاع الليبيّون بمعونة
من هنا ومساعدة من هناك وبكرم وسخاء الليبيّين المقيمين في الخارج الذين هم بكل
المعايير أحسن حالاً من أولئك المقيمين في الداخل سواء كان ذلك في عهد الطاغية
القذّافي أو كان أثناء الثورة اللهم إلاّ من كان من الحظوة من زبانية القذّافي.
بعد إنتصار الثورة في
ليبيا وتولّي من كان متفرّجاً مقاليد الحكم فيها، بدأ الإنفاق بشكل جنوني بحجّة أن
ليبيا غنيّة (بلادنا غنيّة وإحنا بحمد الله مبحبحين !). أعطت ليبيا لثوّار سوريّا
100 مليون دولار (ربنا يتقبّلها كصدقة)، ثمّ بعد ذلك ساهمت ليبيا بمليار دولار
كوديعة إستثماريّة في مصر (ربنا يعوّض فيها)، وبعدها أعطت ليبيا لتونس 100 مليون
دولار شكراً لها على تسليم البغدادي المحمودي ( ما يستاهلش ولا درهم واحد يندفع
فيه).
بعد ذلك قامت ليبيا بدفع
1.5 مليار دولار لموريتانيا شكراً لها على تسليم عبد الله السنوسي ( ممكن يجيبهم
ليكم لوعرفتوا كيف إطّلعوهم منّه !).
كان من بين النفقات
الكبيرة الأخرى إعتماداً على مقولة أن "ليبيا غنيّة" دفع ما يقارب 3
مليار دولار لعلاج الجرحى والذين كما نعرف كان أكثر من 60% منهم ليسوا من الجرحى
ولا من ضحايا الحرب، وبعدها دفع ما يقارب 2.4 مليار دولار كمعونة (رشوة) للعائلات
الليبيّة، وبعدها جاء مشروع تحمّل نصف نفقات الحجيج لهذا العام، وهناك من إقترح
قيام الحكومة بدفع جميع نفقات الحج لكل الحجّاج لهذه السنة. بعدها خرج علينا
قراراً من المجلس الإنتقالي يقضي بدفع تعويضات لسجناء الرأي قدّرت قيمتها بأكثر من
3.2 مليار دولار، ثمّ بعدها جاءت المعونة الثانية للأسر الليبيّة (رشوة عيد
الأضحى) والتي قدّرت قيمتها ب400 مليون دولار.
ثمّ كانت ميزانيّة الحكومة لهذه السنة والتي بلغت 52.4 مليار دولار، وبعدها بالطبع كانت مرتبات أعضاء المؤتمر الوطني التي أرادوها بأن تكون مماثلة لما يدفع لأعضاء البرلمان البريطاني، ثم تلتها سلفة السيّارة (المركوب) لأعضاء المؤتمر الوطني بقيمة 70000 دينار لكل عضو من ال200 أعضاء المؤتمر.
ثمّ كانت ميزانيّة الحكومة لهذه السنة والتي بلغت 52.4 مليار دولار، وبعدها بالطبع كانت مرتبات أعضاء المؤتمر الوطني التي أرادوها بأن تكون مماثلة لما يدفع لأعضاء البرلمان البريطاني، ثم تلتها سلفة السيّارة (المركوب) لأعضاء المؤتمر الوطني بقيمة 70000 دينار لكل عضو من ال200 أعضاء المؤتمر.
هناك أيضاً الكثير من
الصفقات التي لم نعلم عنها شيئاً مثل شراء السلاح وقطع الغيار وعمليّات الصيانة
التي بدأت تجري بسرعة خاصّة في مدن مثل بنغازي وإجدابيا ومصراته وزوارة وبعض مناطق
طرابلس.
من أين لنا بالأموال؟
تعتمد ليبيا في قضاء حوائجها
ومستلزماتها الماليّة على النفط والغاز بإعتبارهما المصدر الوحيد للدخل في ليبيا،
إذ يمثّل هذين العنصرين حوالي 99% من كل مصادر الدخل في ليبيا. يقول الليبيّون
أيضاً بأن الطاغية القذّافي كان قد هرّب أموالاً تقدّر ب100 مليار دولار وهناك من
يرفع القيمة إلى 170 مليار دولار. هذه الأموال بغض النظرعن قيمتها الحقيقيّة التي
سوف لن يعرفها أحداً في العالم، فإنّها تتوزّع على بلاد عديدة في العالم بعضها على
هيئة إستثمارات وبعضها مودعاً في بنوك بأسماء مستعارة وبعضها ربّما على هيئة
تعهّدات وضمانات ماليّة لحكومات الدول المودعة فيها. يعتقد أكثر المتفائلين من
الليبيّين وخبراء الإقتصاد العالميّين بأن ليبيا ربّما تفلح في إستعادة ما مقداره
30 مليار دولار من أموالها المهرّبة في أحسن الأحوال، هذا بالطبع إذا عرفت ليبيا
كيف تلعب أوراقها أمام العالم.
يبلغ إنتاج ليبيا من
النفط في الوقت الحالي ما يقارب من 1.8 مليون برميل في اليوم، تصدّر منها يوميّاً ما
بين 1.4 – 1.6 مليون برميل.
وتنتج ليبيا من الغاز ما
مقداره 594 بليون قدم مكعّب في اليوم، تصدّر منها يوميّاً ما مقداره 352 بليون قدم
مكعّب.
تبلغ مداخيل ليبيا المتوقّعة
لعام 2012 من النفط والغاز 54.5 ملياردولار أمريكي فقط، وقد تصل إلى 70 مليار في
السنة القادمة وفق أحسن التوقّعات. هذه الأرقام صحيحة بالطبع في حالة إستمرار
وتيرة الإنتاج والتصدير كما هي عليه الآن، لكن لا أحد من المراقبين يستطيع أن يضمن
ذلك في ظل التسيّب الأمني وغياب حكومة قويّة في البلاد.
يبلغ إحتياطي ليبيا من
الغاز 70 تريليون قدم مكعّب.
ويبلغ إحتياطي ليبيا من
النفط حسب المسح المعمول حتى عام 2011 ما مقداره 47.1 بليون برميل، أي أن ليبيا
تعتبر من أكبر دول أفريقيا كلّها من حيث الإحتياط.
إذا إستمر إنتاج ليبيا
بمعدّل 2 مليون برميل يوميّاً وظل إحتياطي النفط كما هو عليه الآن وعلى إعتبار أن
النفط يحسب من الطاقات الغير متجدّدة، فإنّ إحتياطي ليبيا سوف يكفيها فقط ل67 سنة
قادمة ينضب بعدها النفط ويصبح لزاماً على ليبيا أن تبحث عن مصادر أخرى للدخل إعتباراً
من الآن، وبأن تحاول الدولة الليبيّة تجنيب بعض مداخيل النفط إحتياطاً لنكبات
الدهر وطوارئ الحياة الغير محتسبة عند تقدير قيمة الميزانيّة.
وختاماً.... الغنى بدون شك هو غناء النفس والإحساس بالقناعة والرضاء. المقصود من هذا المقال المتواضع هو أنّنا كليبيّين علينا البدء في عمليّات الحساب الدقيقة لترشيد مصروفاتنا وتحديد أولويّاتنا، ولا يوجد لنا بديلاّ عن السير في ذلك الطريق إن كنّا بالفعل نطمح إلى بناء إقتصاد ليبي متين تقع على عاتقه مشاريع الإنماء التي يجب أن تركّز على أسس تكوين الإنسان في بلادنا.
وختاماً.... الغنى بدون شك هو غناء النفس والإحساس بالقناعة والرضاء. المقصود من هذا المقال المتواضع هو أنّنا كليبيّين علينا البدء في عمليّات الحساب الدقيقة لترشيد مصروفاتنا وتحديد أولويّاتنا، ولا يوجد لنا بديلاّ عن السير في ذلك الطريق إن كنّا بالفعل نطمح إلى بناء إقتصاد ليبي متين تقع على عاتقه مشاريع الإنماء التي يجب أن تركّز على أسس تكوين الإنسان في بلادنا.
إستغربت كثيراً حين سمعت أحد أعضاء
المؤتمر الوطني (عن الإخوان المسلمون) وهو يطلب من السيّد "علي زيدان"
في مسابقة رئيس الوزراء بأن يزيد من مرتبّات الموظّفين الليبيّين، وبأن يرجّع قيمة
الدينار الليبي إلى سابق أوانها أي 1 دينار= 3.3 دولارات.
السيّد علي زيدان ردّ بكل ديبلوماسيّة وبكل ثقة:
مثل هذه الأمور سوف تحظى بإهتمامنا، ولكن علينا القيام بالحسابات اللازمة قبل
الشروع في مثل تلك الإجراءات.
الكثير من الناس في بلادنا يظنّون بأن
أموال ليبيا كثيرة وكثيرة جدّاً، وبذلك نجد أن تفكيرهم ينصبّ على الآليّة التي بواسطتها
يمكنهم أخذ "نصيبهم" منها وبأية وسيلة.
ليبيا يا أيّها السادة إن كانت غنيّة فهي
غنيّة بعقولها وغنيّة بأهلها وغنيّة بتراثها، أمّا أموال النفط والغاز فهي بصدق
قليلة وقليلة جدّاً لو عرفتم بأنّ ليبيا سوف تحتاج لأكثر من 500 مليار (بليون)
لتنفيذ بنية تحتيّة لائقة بأهلها. نحن هنا نتحدّث عن إعادة الحياة لليبيا بشكل
لائق ومتحضّر مثل إنشاء طرق حديثة بكل مستلزماتها، وإنشاء مطارات حديثة، وإنشاء
شبكة مواصلات مريحة ومأمونة، وتوفير خدمات صحيّة تهتم بصحّة المواطن بما في ذلك
مشاريع الوقاية من الأمراض، وكذلك إستحداث نظام تعليمي عصري تتوفّر له إحتياجاته،
وغيرها من متطلّبات الدولة العصريّة.
إذا كانت ميزانيّتنا التسييرية لهذه السنة
قد بلغت ما يقارب 60 مليار دولار، فإنّنا وقياساً بمدخولات ليبيا لنفس السنة قد نجد
أنفسنا نعاني من عجز مالي ربّما سوف يتجاوز ال7 مليار من الدولارات... فمن أين لنا
بسدّ مثل هذا العجز، وكيف يمكننا إيجاد المال لتنفيذ مشاريع مستعجلة أو التعامل مع
أحداث طارئة لم تكن في الحسبان؟.
من وجهة نظري، إن أوّل ما يتوجّب علينا في هذا الخضم هو أن نقوم بالمحافظة
على ثروتنا من الضياع وذلك بترشيد الإنفاق، والتقليل من العادم بما يعني ذلك من
ترسيخ لفكرة إعادة تدوير المستهلكات (Recycling)
لدى المواطن، كما يعني ذلك أيضاً العمل على الإستفادة القصوى من المال العام لأنّه
يعني وبكل بساطة أموال كل الليبيّين والليبيّات. إنّ أوّل خطوة للمحافظة
على أموال ليبيا تكمن في التوقّف عن سرقة المال العام من قبل موظّفي الدولة، وممّن
توكل لهم مهاماً رسميّة؛ وحين تتوفّر لنا السيولة فإنّنا سوف نتمكّن من تنميتها
وإستثمارها فيما يدر على بلادنا أموالاً إضافيّة تساعدنا على توفير الرخاء
والبحبوحة لأبناء وبنات هذا الشعب الذين تعذّبوا كثيراً وعانوا من الفاقة والحرمان
أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك