قبل أن تستعر نار الطبخ نتأذّى من دخّانها، وقبل أن نشتم رائحة الطبيخة اللذيذة فإنّنا نتقزّز من رائحة بصلها، وقبل أن نتمتّع بهطول الأمطار فإنّنا ننزعج من برقها ورعودها، وقبل أن ننعم بالعافية بعد المرض فإنّنا نتأسّى من أوجاع السقم وآلامه.
حكم الطاغية القذّافي بلادنا لأكثر من أربعة عقود من الزمن عمل خلالها على قلب المفاهيم وتغيير القيم. ألغى في بداية حكمه القوانين وحرّض الناس على عدم إحترام اللوائح والأنظمة المسيّرة للدولة، وشجّع الناس على الفوضى، وفتح الباب على مصراعيه لكل أشكال الفساد ودفع الناس بطريقة مباشرة أو غير مباشره على الإنغماس فيه.
من طبيعة البشر الميل نحو الجنوح أكثر من حبّهم للإمتثال؛ فمن السهل أن يتعلّم أحدنا التدخين أو شرب الخمر من أن يقلع عن أيّ منهما. الهدم بطبيعة الحال هو أسهل من البناء فما تحتاج لهدم ناطحة سحاب هو مادة تفجيريّة بدائيّة أو بعض المعاول اليدويّة وفي غضون بضعة دقائق تهوى تلك العمارة الشاهقة إلى مستوى الأرض، لكنك من أجل بناء مثل تلك العمارة الكبيرة تحتاج إلى تخطيط وتصميم ومهندسين وفنيّي بناء ومواد بناء وألات ثقيلة والكثير من الوقت قد يستغرق أشهراً.
من هنا نجد أنفسنا اليوم وبعد مرور أكثر 7 أشهر بعد إعلان التحرير من نظام حكم الطاغية القذّافي أنّنا مازلنا نعاني من تبعات ذلك النظام البغيض؛ فأكثر من 4.5 مليون ليبي وليبيّة (76% من عدد السكّان) هم من مواليد ما بعد سبتمبر 1969 وهؤلاء الناس لم يروا في حياتهم غير نظام وثقافة عهد الطاغية القذّافي، ولم يتعلّموا قيماً غير تلك التي سمح بها، ولم يمارسوا مهنة غير من خلال ما توفّر لديهم في عهده.
بدون شك وبكل تأكيد علينا أن نذكّر أنفسنا بأن من أشعل ثورة 17 فبراير عام 2011 كانوا كلّهم من بين هذا الجيل الذي نتحدّث عنه، وتلك كانت مفاجأة للطاغية نفسه؛ حيث ظنّ بأنّه كان قد دجّن كل هؤلاء، وبأنّه كان يحسّ بكامل الآمان تجاههم. أنا نفسي ( كنت من بين الداعين لتغيير نظام القذّافي منذ عام 1975 وحتى حدوث الإنتفاضة الكبرى في عام 2011) لم أكن أتوقّع بأنّ أبناء وبنات "القذّافي" هم من سوف يقلب عليه نظام حكمه، وأقولها بكل صدق بأنّنا كنّا نعوّل على الليبيّين في الخارج الذين عارضوا نظام القذّافي بكل قوّة مما أضطرّهم للهجرة من بلادهم وترك أهلهم وأصدقائهم من أجل ذلك؛ وحين أواصل كتابة سلسلتي التي كنت بدأت في نشر الكثير من حلقاتها قبيل 17 فبراير 2011 والتي كانت بعنوان ("من حقّي أن أحلم"... والتي نشرت منها 7 حلقات في "ليبيا وطننا") فإنّني سوف أنشر الحلقات التي كتبتها وأرجأت نشرها حين تفاجأت بما حدث في 17 فبراير 2011... حين أشرع من جديد في نشر تلك الحلقات التي سبق لي كتابتها والتي سوف تليها كما كان مقرّراً لها قبل حدوث ثورة 17 فبراير، فإنّ القارئ سوف يكتشف بأنّني كنت أعوّل على المعارضة الليبيّة في الخارج من أجل تغيير نظام الطاغية القذّافي. سوف أواصل نشر تلك السلسلة بإذن الله في "ليبيا موطني" إعتباراً من الإحتفال بعيد ميلادها الأوّل في 1 يونيو 2012.
وعودة إلى المشاكل التي تعاني منها بلادنا الآن من كذب وسرقة وتحايل وغشّ وغدر وتهريب وتحايل على القانون؛ فإنّنا بكل يسر سوف نجد بأن أغلب الذين يقترفونها هم من إنتاج عهد القذّافي اللعين ولا ذنب لهم في ذلك فلا يمكنك أن تنفق من جيبك إلاّ بما توفّر بداخله. السؤال الكبير الذي سوف يظل مشروعاً لأكثر من عقد آخر من الزمان أمام المشرّع الليبي الجديد، وأمام الموظّف والمسئول الليبي الجديد هو "كيف يمكن محو ثقافة عهد القذّافي من عقول وتفكير من تركهم لنا بعده"؟.
علينا أن نكون على بيّنة ويقين بأنّ السلام لم يتحقّق بعد في بلادنا برغم مرور الأشهر السبع التالية لإعلان التحرير، وبأنّ الوضع في بلادنا مازال ينذر بالخطر بين الحينة والأخرى، وبأن شبح الحرب الأهليّة مازال قائماً، وبأنّ البساط الأحمر لم يمدّ بعد أمام الليبيّين كي يسيروا عليه نحو بناء ليبيا المستقبل... ليبيا الدولة العصريّة المتمدّنة.
هل يعني هذا أنّنا نتشاءم ونعيش أيّامنا وليالينا في قلق وترقّب؟. في ترقّب.... نعم، وفي حذر.... نعم، وفي إنتباه.... نعم؛ لكن في خوف....لا، وفي تشاؤم.... لا، وفي تردّد... لا، وفي فقدان زمام المبادرة.... لا.
الحياة أمل، والسعادة تفاؤل، والبناء عزم وإرادة، والتغيير إقدام ومثابرة، والعيش بأبجديّات العصر الذي نعيش فيه يعني إستخدام العقل والإستعانة بالمتعلّمين في بلادنا... وهم كثيرون.
بناء جسر العبور نحو بناء الدولة
بعد أقل من شهر من الزمان سوف يخرج ما يقارب من ال 3.5 مليون من الليبيّين والليبيّات في مهرجان إنتخابي لم يحدث في بلادنا منذ عام 1966، بل إن كنّا منصفين وحكمنا بما نتوقّعه ونتوق إليه فإنّ إنتخابات 19 يونيو 2012 سوف لن يكون لها مثيلاً في تاريخ بلادنا منذ نشأتها؛ ذلك لأن إنتخابات عام 1966 لم تكن حرّة ولم تكن نزيهة.
وفي هذا السياق، وإستعداداً لهذا الحدث التاريخي فقد شهدت ليبيا على مدار السبعة أشهرالماضية إستعدادات حثيثة من أجل بناء الصرح الديموقراطي ولكن على خلفيّة غياب أي أساس للديموقراطيّة في بلادنا يضاف إليه بكل تأكيد غياب الوعي الديموقراطي لدى الليبيّين، ولكن رغم كل ذلك فقد أعلن تباعاً عن
تشكيل العديد من الاحزاب السياسيّة في عدم وجود قانون منظّم لها، وكذلك تم بناء بعض التكتّلات السياسيّة، وتشكيل الكثير من تنظيمات المجتمع المدني. كما أنّني أود هنا أن أنوّه بكل فخر إلى مشاركة الفتاة الليبيّة الواعدة بكل إيجابية في عمليّات المخاض الديموقراطي والتي رغم تلك التحدّيات الكبيرة التي واجهتها وما زالت تواجهها إلاّ أنّها شقّت طريقها الواضح المعالم نحو إنتخابات 19 يونيو الآتية لا محالة بإذن الله.
وبرغم حداثة التجربة الديموقراطية فى ليبيا، إلا أن التحالفات وجدت لها
مكاناً بين الاحزاب والكتل السياسية التي قررت خوض الانتخابات المقبلة ،ولعل من
أبرزها ما أعلن عنه مؤخّرا حول تحالف أكثر من ألف شخصية سياسية تنتمي إلى 40 حزباً سياسياً
و350 مؤسسة مدنية لخوض أول إنتخابات تشريعية تشهدها ليبيا، وسينبثق منها المؤتمر
الوطني.
وضم التحالف مختلف التيارات والأطياف السياسية المناطقية والإسلامية
والليبرالية والعلمانية والمستقلة ،ولعبت أحزاب "الوطني الليبي" وتجمع "ثوار ليبيا"
وحزب "الوفاق" الدور الكبير في تجميع القوى السياسية التي نسّقت للتوافق بين الأحزاب
على إختيار المرشّحين، وقرّروا رفضهم لأي تمويل خارجي من أي دولة أو منظمة حكومية أو
أهلية أجنبية.
هناك تحالفات أخرى سوف تتشكّل قبيل الإنتخابات وخاصة لتلك التي تستند على "خلفيّة دينيّة" مع أنّها تختفي وراء مسمّيات مدنيّة إنسجاماً مع الثقافة الوسطيّة والليبراليّة التي تعم الآن بين أوساط المجتمع الليبي الذي كما قلت يمثّل الشباب أكثر من ثلثيه.
وسعياً من أجل تحويل الحلم إلى واقع فقد تم تأسيس مفوضيّة عليا للإنتخابات بموجب أحكام القانون رقم 3 لسنة 2012
ميلادية الصادر عن المجلس الوطني الإنتقالي بتاريخ 18 / 1 / 2012 ميلادية، وهي هيئة
وطنية تتمتّع بالشخصيّة الإعتباريّة والذمّة الماليّة المستقلة ومقرّها مدينة طرابلس
ويمكن إنشاء فروع لها في مختلف مناطق البلاد.
تتولى المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات
المهام التالية:
1. الإعداد والتنفيذ لإنتخاب المؤتمر الوطني العام والإشراف
عليها ومراقبتها والإعلان عن نتائجها وفقاً للأُسس والقواعد المعتمدة للعملية
الإنتخابية في قانون الإنتخاب.
2. توعية المواطنين بأهميّة الإنتخابات وشرحها
وحثّهم على المشاركة فيها.
3. وضع القواعد الإرشادية لسير العملية الإنتخابية
بما يحقّق نجاحها وتنفيذ قانون الإنتخابات.
4. تسجيل الناخبين وإعداد سجلاّتهم
وقوائم بياناتهم ومراجعتها.
5. تشكيل اللجان المتخصّصة بالعمليّة الإنتخابية
وعمليّات الإقتراع والفرز وتحديد مواعيد الإنتخابات.
6. تحديد مواعيد قبول
طلبات الترشح وتسجيل المرشّحين.
7. إعتماد المراقبين المحلّيين والدوليّين
ووكلاء المرشّحين.
8. وضع أليّة لتسجيل تلقّي الشكاوي والتظلّمات التي تدخل في
إختصاصها والبث فيها وفقاً لأحكام قانون الإنتخابات.
9. تحديد مدة الحملات
الإنتخابية ومراقبتها.
10. تنظيم الإنتخابات لليبيين المقيمين في الخارج في
البلدان التي تحددها المفوضية وأمكانية إجراء الإنتخابات فيها بالتنسيق مع وزارة
الخارجية والتعاون الدولي.
هذا.... فقد بلغ عدد المسجّلين لإنتخابات المجلس الوطني حتى يوم الخميس 17 مايو 2012 ما مجموعه 2,369,142 ناخب مسجّل ( ما يقارب 75% من مجموع المرخّص لهم بالمشاركة في هذه الإنتخابات)، كما بلغ عدد المرشّحين حتى نفس التاريخ 3,625 موزّعين على النحو الآتي: 2,476 مرشّح فردي، و1,049 مرشّح قائمة. وكان عدد القوائم المشاركة 310 قائمة، وعدد الكيانات السياسيّة 137، وتجدر الإشارة إلى أن مشاركة المرأة الليبيّة كانت كبيرة وإيجابيّة أيضاً.
بدون شك فإن إقبالاً بمثل المشار إليه عاليه يعكس مدى حرص الليبيّين على بناء مستقبل بلادهم، ومدى فرحهم بالتغيير الذي أحدثوه بأنفسهم فرضوه بإرادتهم الحرة. وسوف تغلق مكاتب التسجيل في داخل ليبيا أبوابها مع نهاية عمل يوم غد الإثنين 21 مايو 2012 بعد إعطاء إسبوع إضافي لتمكين من لم يتمكّن من التسجيل لهذه الإنتخابات.
نحن نعرف بأنّ أغلب دول العالم الديموقراطيّة الحديثة تعاني من تدنّي نسب إقبال الناس على الإنتخابات، وكانت نسب المشاركة الشعبية قد إنحدرت بالفعل إلى مستويات غير سارّة حيث تراوحت ما بين 34 - 40% في أغلب الأحيان. حين يسجّل أكثر من 75% من الليبيين والليبيّيات برغم كل المحاذير، وبرغم كل الصعوبات والمخاوف للمشاركة في هذه الإنتخابات، فإن ذلك يعني فقط مدى حرص الليبيّين على المشاركة في صنع دولتهم العصريّة. أتمنّى بأن يكون عدد المشاركين في الإنتخابات فعليّاً أكثر من النسبة المعلنة بتاريخ الخميس الماضي.
كيف يمكننا عبور هذا الجسر ؟
بالتأكيد... سوف لن تكون المهمة بتلك البساطة، وسوف لن تكون بدون مخاطر؛ لكن أبناء وبنات هذا الشعب الذين إستطاعوا بإمكانيّات متواضعة قهر نظام ديكتاتوري بوليسي في أقلّ من 8 أشهر، وبخسائر بشرية تجاوزت 50,000 شهيد وشهيدة ... شعب بهذه الإرادة، وبذلك الإصرار سوف يذهب إلى الإنتخابات وسوف ينتخب، وسوف يحمي نظامه الديموقراطي مهما كانت التضحيات التي أتمنّى بأن تكون قليلة وغير مكلّفة.
نحن في حاجة إلى مزيد من التكاتف، ومزيد من التخلّص من الآنانيّة، ومزيد من التحاور مع بعض بأساليب عصريّة تحترم وجهة النظر المضادة، كما أنّنا نحتاج أن نرى أنفسنا من خلال بلدنا، ونرسم معالم مستقبلنا من خلال مستقبل ليبيا الموحّدة التي تحترم كل موطنيها بدون تمييز أو مفاضلة إلاّ بما يكون من خلال العدل المطلقا إن نحن إستطعنا تحقيقه.
علينا بأن نستمر في المشوار حتى نهايته، وبأن لا نسمح لأولئك الذين يتعايشون ويتكاثرون ويثرون في وجود الفوضى والإقتتال، وبأن نسعى إلى المصالحة فيما بيننا مهما إختلفنا في السابق، وبأن نبدأ في بناء جسور المحبّة والتعاون فيما بيننا حتى تتآلف القلوب وتتنقّى النفوس بهدف إذابة الضغائن ونشر ثقافة حب الغير والإيثار على النفس ولو كان بها خصاصاً... فتلك هي آوامر الرب الذي بحمد الله نؤمن به جميعاً في ليبيا، ونتبع أوامره عن طواعية، ونبتعد عن نواهيه عن رغبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك