الذي يبحث عن المجد ويسعى إليه يحقّقه مهما كانت العراقيل، ففي نهاية المطاف كل شئ يبدأ بحركة والحركة – مهما كانت صغيرة – لا بدّ وأن تؤدّي إلى الإنتقال من النقطة ألف إلى النقطة باء.
منذ أن خلق الله الإنسان على وجه الأرض وهو يسعى حثيثاً نحو تحسين كل ما يتعلّق بحياته من مأكل ومشرب وملبس وصحة وضمانات مستقبليّة بما في ذلك بالطبع الإستعداد للمستقبل بما يحمله من مفاجآت وطوارئ.
خلق الله الإنسان بجسد وعقل، ولم يهمل هذا الإنسان أي من الإثنين بحيث أنّه طوّر جسده بما يتلاءم مع إحتياجاته، وطوّر عقله بما يكيّفه للعيش في زمانه... بل والتفكير للمستقبل.
بدأ الإنسان القديم يحاكي البيئة المحيطة به حتى تعلّم منها أغلب أساسيّات ومتطلبات حياته كالأكل والشرب والملبس، ثمّ إذا به يحاول إنتاج بعض متطلبات حياته مستخدماً المصادر الطبيعيّة المتاحة في زمانه وفي مكانه.
بعد ذلك إنتقل الإنسان تدريجيّاً إلى الأمام فتعلّم القراءة والكتابة، ثمّ دخل عصر الإختراعات والإبتكارات الجديدة، وكلّما إخترع الإنسان شيئاً جديداً كلّما فتح ذلك له أفاقاً مختلفة مكّنته من تحقيق الكثير حتى وصل إلى عالم اليوم الذي يزخر بثورة في جميع مجالات الحياة التي على رأسها بكل تأكيد مجال الإتصالات والتواصل الإجتماعي والمعرفي. في هذا الخضم وجد الإنسان نفسه يسابق عقله وتفكيره بذلك القدر الذي تمكّنت فيه مخترعاته من مسابقته والإنتصار عليه.
تشعّبات الحياة وتعقيداتها دفعت الإنسان إلى إبتكارأليّات ووسائط تمكّن من خلالها من تنظيم حياته فبدأ بتكوين مجالس محليّة بدائيّة في أوّل الحياة ثم أخذت هذه المجالس البدائيّة تتطوّر مع الزمن حتى وصلت إلى أجهزة الحكم المتطوّرة التي ننعم بها في عالم اليوم.
أنواع أنظمة الحكم في العالم
تتنوّع أنظمة الحكم في العالم المحيط بنا حسب تنوّع الدول والشعوب والثقافات:
1- النطام البابوي: يعتبر البابا الرئيس الروحي في هذا النظام، وهو يتمتّع بعدة ألقاب منها صاحب القداسة والحبر الأعظم، ويتمتّع البابا بصلاحيّات واسعة وغير محدودة في الفاتيكان، وينتخب البابا مدى الحياة. النظام الشبيه لمفهوم البابا في عالمنا الإسلامي هو نظام "آية الله" في إيران، والعراق.
2- النظام الإمبراطوري: يعتمد النظام الإمبراطوري على نظام حكم ملكي من الأساس، إلا أن سلطة الإمبراطور تعتبر محدودة جداً وقد تقتصر أحياناً على المراسم البروتوكوليّة، حيث يشار إلى الإمبراطورفي الدستورعلى أنّه "رمز الدولة ووحدة الشعب". اليابان تعتبر المثال الحاضر لهذا النوع من الحكم.
3) النظام الملكي: الملكية تعتبر إحدى أنظمة الحكم، حيث يكون الملك على رأس الدولة وتعرف زوجته بلقب الملكة عقيلة الملك. الحكم في النظام الملكي غالباً ما يكون لفترة طويلة تمتد في معظم الأحيان حتى وفاة الملك، وينتقل الحكم بالوراثة إلى ولي عهده بدون الرجوع للشعب أو صناديق الإقتراع. يعتبر النظام الملكي من أعتى الأنظمة المفروضة على الشعب، وتتركّز الثقافة الملكيّة على نظريّة العبد (الشعب) والسيّد (الملك)، وتطلق ملكة بريكانيا على الشعب الإنجليزي عبارة "عناصري" أو "أشيائي" My subjects.
4) النظام الأميري: يعتبر من أحد أشكال أنظمة الحكم الملكيّة في العالم، حيث أنه يعتمد على الوراثة من خلال عائلة واحدة.
5) النظام السلطاني: يعتبر شكلا أخر من أنظمة الحكم الملكيّة، حيث تتوارث الحكم أسرة واحدة من خلال سلالاتها المتعاقبة. سلطنة عمان تعتبر مثالاً.
6) النظام الإمامي: وهو يعتبر نمطاً آخر من أنماط الحكم الوراثي، والمثال يقع في اليمن في فترة الخمسينات.
7) النظام الجمهوري: وهو النظام العصري الوحيد الذي يتم فيه تداول السلطة من خلال صناديق الإقتراع، ويكون فيه للشعب الكلمة العليا والقرار الحاسم. توجد ثلاثة أنواع من الحكم الجمهوري:
أ) نظام حكم رئاسي
ب) نظام حكم برلماني
ج) نظام حكم رئاسي وبرلماني في نفس الوقت.
8) النظام الجماهيري: يرمز هذا النوع من أنظمة الحكم إلى أوّل محاولة لتأسيس نظام حكم في العالم حيث كانت أثينا هي المحطّة الأولى في العالم. يعتبر النظام الجماهيري (الديموقراطيّة المباشرة) من أرقى أنواع الحكم الديموقراطي في العالم حيث يحكم الشعب نفسه بنفسه من خلال مؤتمرات محليّة تناقش قضايا المنطقة وتقرّر ما يجب حيالها بدون الرجوع إلى جهة أعلى. النظام الجماهيري يعتبر التجسيد الأكيد للديموقراطيّة المباشرة (النقيّة) لكن تطبيقه على الواقع قد يكون صعباً أو ربّما مستحيلاً خاصّة في عالم اليوم حيث تتنوّع وتتشعّب متطلّبات الحياة اليوميّة فلا يجد معها الناس وقتاً للإجتماع والنقاش.
الديموقراطيّة
كلمة ديموقراطيّة (δημοκρατία (dēmokratía كما يعرف الكثير من القراء تعني "سلطة الشعب"، فهي مأخوذة من كلمتين إغريقيّتين "ديموس" (δῆμος (dēmos =الشعب، "كراتيّة" (κρατία (kratia = سلطة أو إدارة.
كان أوّل تطبيق لمعاني هذه الكلمة على الواقع في أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد حيث كان الناس أنذاك يقسّمون إلى طبقتين: الأحرار(الملاّك)، والعبيد(الخدم)؛ وكان الأحرار يمثّلون فقط ما يقارب 30% من سكّان أثينا، بينما البقيّة كانوا يعتبرون من الخدم. الديموقراطيّة الأثينيّة كانت في واقع الأمر تتعلّق فقط بذلك الثلث من سكان أثينا الذين كان يسمح لهم بالجلوس ومناقشة قضايا أثينا المختلفة بكل حريّة وكانوا يصدرون القرارات بطريقة رفع الأيادي وإعتماد الأغلبيّة في تمرير القرارات، بينما كان الثلثين من سكان أثينا ينفذّون قرارات الملاّك بدون نقاش أو إعتراض.
كان مواطنوا أثينا القديمة يتّخذون قراراتهم مباشرة بدلاً من التصويت على إختيار نوّاب ينوبون عنهم في إتخاذها، وهذا الشكل من الحكم الديمقراطية الذي كان معمولاً به في أثينا القديمة يسمى بالديموقراطيّة المباشرة أو الديموقراطيّة النقيّة كما ذكر أعلاه.
بعد أثينا إنتشرت الفكرة إلى جمهوريات الهند القديمة والتي تواجدت في فترة القرن السادس قبل الميلاد وقبل ميلاد بوذا. وكانت تلك الجمهوريات تعرف بالـ "ماها جاناباداس"، ومن بين هذه الجمهوريات "فايشالي" التي كانت تحكم فيما يعرف اليوم ب"بيهار" والتي تعتبر أول حكومة جمهورية في تاريخ البشرية.
وبعد ذلك في عهد الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد كتب الإغريق عن دولتي "ساباركايي" و"سامباستايي"، اللتين كانتا تحكمان فيما يعرف اليوم بباكستان وأفغانستان. ووفقاً للمؤرخين اليونانيّين الذين كتبوا عنهما في حينه؛ فإن شكل الحكومة فيهما كان ديمقراطياًّ ولم يكن ملكيّاً.
بعد الهند تكوّنت ديموقراطيّات صغيرة في مناطق متعدّدة من العالم أنذاك حتى نشأت الإمبراطوريّات التي كانت فلسفتها تتعارض مع التفكير أو الممارسة الديموقراطيّة. كانت كل من إمبراطوريّة الفرس والروم تمثّل ذلك النوع من الإمبراطوريّات التي قضت على الديموقراطيّة الوليده في مهدها.
وبمرور الزمن تغيّر مفهوم "الديموقراطية" لدى الناس عبر العصور، وإرتقى تعريفها الحديث كثيراً منذ القرن الثامن عشر مع ظهور الأنظمة "الديموقراطية" المتعاقبة في العديد من دول العالم، فلم يكن يوجد في عام 1900 نظام ديموقراطي ليبرالي واحد يضمن حق التصويت وفق المعايير الدولية، ولكن في العام 2012 كانت 147 دولة من دول العالم (80%) تعد من الديموقراطيّات الليبراليّة، غير أن 60 دولة منها تعتبر في أحسن الأحوال ديموقراطيّات جزئيّة من أمثال تركيا والمغرب والكويت ولبنان.
الدول التي أعتبرت ديموقراطيّة حسب معايير منظّمة "الحريّة" العالميّة
المبادئ العامة للديموقراطيّة
هناك مبادئ عامّة يجب أن تتوفّر في الممارسة الديموقراطيّة تحت أي مسمّى وبأي شكل منها:
• مبدأ حكم الأكثريّة.
• مبدأ فصل السلطات (التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة) ومفهوم تجزيء الصلاحيات.
• مبدأ التمثيل والإنتخاب الحر.
• مفهوم المعارضة الوفيّة للوطن.
• مفهوم سيادة القانون على الجميع بدون إستثناء.
• مفهوم اللامركزية وإعطاء صلاحيّات كبيرة لكل مناطق الدولة.
• مفهوم اللامركزية وإعطاء صلاحيّات كبيرة لكل مناطق الدولة.
• مبدأ تداول السلطات سلميّا من خلال صناديق الإقتراع.
أنواع الديموقراطيّة
أ) الديموقراطية المباشرة.
ب) الديموقراطية النيابية (البرلمانيّة).
ج) الديموقراطية الليبراليّة التي تهتم بحقوق الأقليّات ولا تركّز بالضرورة على نظرية "حكم الأغلبيّة".
الديموقراطيّة في الإسلام
لم يتطرّق كتاب الله إلى شكل أو نظريّة الحكم في الإسلام، وإنّما ذكر القرآن مبادئ عامة كالعدل والنزاهة والشورى. القرآن في عمومه يحدّد الأحكام العامة ولا يتطرّق إلى التفاصيل؛ فتلك هي مهمّة الناس في كل عصر لأن يتباحثوا في التفاصيل فيما بينهم بما يتناسب والزمن الذي يعيشون فيه ومتطلبات ذلك العصر. القرآن لا يجوز إعتباره دستور حكم لأي دولة في العالم، وليس من العدل الإشارة في الدستور على أن القرآن شريعة المجتمع لأن ذلك يحوّل القرآن إلى مادة دستوريّة يمكن تغييرها في أي وقت. القرآن يمكن إعتباره مصدراّ للتشريع لمن رغب في ذلك على أساس أنّه مرجع(مستند) للقيم والمبادئ الإنسانيّة النبيلة.
حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام بإعتباره نبيّاً مختاراً من عند الله فكان نظام حكمه توافقي 100%. كان الرسول يستمع إلى أراء الصحابة ووجهات نظرهم، لكن عموم الناس لم يكن لهم رأي في الحكم إلا من خلال تواصل حكّام المناطق المعيّنين. عندما توفّى رسول الله لم يشاء أن يترك وصيّة لمن سوف يحكم بعده مع علم الرسول بإقتراب المنيّة. كما أن الرسول لم يعيّن من بعده أحد أفراد أسرته حتى لا يحسّ الناس بأن نظام الحكم في عهد الإسلام يجب أن يكون وراثيّاً.
بعد وفاة الرسول حدث فراغاً كبيراً في السلطة كاد أن يعصف بالدولة الإسلاميّة الوليده، لولا حنكة أبوبكر الصدّيق ومن كان معه من صحابة الرسول فتوافقوا على تعيين أبوبكر الصديق خليفة للرسول بعد تقديم كل من الأنصار والمهاجرين ممثّلاً عنهم ليقوم بتلك المهمّة.
توفّى أبوبكر الصدّيق عن مرض لم يمهله طويلاً، لكنّه قبل وفاته نصح بتولّي عمر بن الخطّاب من بعده مع أن عمر لم يكن من أقربائه أو من أصهاره.
عمر بن الخطّاب مات مقتولاً لكنّه إستعد لأمر الخلافة منذ فترة تحسّباً لأي طارئ وذلك بأن إختار 6 من الصحابة كان من بينهم عثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب. طلب من أتباعه الخروج بهذه الأسماء على الناس في المدينة ليستقرئ رأيهم، ويقال بأن أهل المدينة إختاروا عثمان بن عفّان ليخلف عمر بن الخطّاب.
عثمان كما نعرف كان قد إنتهى مقتولاً فكانت ولاية علي بن أبي طالب لزوم ما يلزم. بعد على بن أبي طالب تولّي يزيد بن معاوية بقوة السيف فكانت ولاية يزيد بن معاوية شبيهة بإنقلاب عسكري. المعروف أن يزيد كان ولي العهد لدولة الأمويين في سوريا إلى أن توفى والده فإنتهى الملك له بالوراثة.
بعد يزيد تولّى إبنه معاوية الحكم بالوراثة لكن حكمه لم يدم لأكثر من 40 يوماً، ليتولّى الخلافة من بعده عبد الملك بن مروان، وهو إبن مروان بن الحكم الخليفة الأموي حيث كانت الدولة الإسلاميّة مقسّمة بين خلافتين ( أمويّة وعبّاسيّة) أخراهما كانت تحت إمرة عبد الله بن الزبير.
تمكّن عبد الله بن مروان من محاربة الدولة العبّاسيّة في العراق والحجاز مما أدّى إلى مقتل عبد الله بن الزبير ليتمكّن عبد الله بن مروان من توحيد دولة الإسلام إلى حين من الزمان تحت إمرته.
بعد وفاته تولّى إبنه يزيد بن عبد الملك بن مروان بالوراثة، ثم بعد وفاة هذا تولّى الخلافة بعده أخوه سليمان، وبعد هذا تولّى الخلافة عمر بن عبد العزيز وهو إبن حفيدة عمر بن الخطاب وزوجته هي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان... أي أن العوائل توارثت الحكم فيما بينها بعيداً عن عموم الناس.
وإستمرّ التوارث على الحكم بين الخلفاء الأمويين والخلفاء العباسيّين كل حسب قدرته، وكل حسب نسله بحيث أن جميع هذه الولايات (الخلائف) كانت وراثيّة 100% يتم فيها تولّي الخلافة على أسس عائليّة بإمتياز بعيداً عن علم أو دراية عموم الناس. إستمرّ ذلك التوارث على الخلافة حتى هزيمة المسلمين في الأندلس وإستلام الأتراك الخلافة من بعدهم. الأتراك في عهدهم العثماني الأوّل والثاني ساروا على نفس المنوال بحيث لم تكن هناك إنتخابات أو إختيارات بعيدة عن التوارث الأسري للحكم.
من هنا نرى بكل جلاء ووضوح بأن الدولة الإسلاميّة منذ أول أيّام تأسيسها في عهد الرسول عليه السلام وحتى نهاية الخلافة الإسلاميّة ككل بهزيمة الأتراك في الحرب العالميّة الأولى وبداية الإستعمار الأوروبي لبلاد العرب والمسلمين لم يتم فيها على الإطلاق أي تداول على السلطة، ولم تذكر فيها كلمة "الديموقراطية" أو الإنتخابات على الإطلاق، بل أن كل ما عرفه المسلمون والعرب كان "مبايعة" لأناس ورثوا الحكم عن أبائهم بعيداً عن جميع المبايعين.... أي أنّها كانت مبايعة "ملزمة" قد يعاقب من يتخلّف عن تقديمها للحاكم الجديد.
هذا بكل تأكيد يدّعم مواقف جميع التيارات الإسلاميّة المعاصرة التي تتنكّر للديموقراطية بل وتستهجنها، حيث أنّ هذه الكلمة ليس لها أثراً في ثقافة المسلمين عبر العصور. كذلك فإن عدم إعتراف الإسلاميّين بفكرة الإنتخاب وتداول السلطة من خلال الإختيار الشعبي له الكثير مما يبرّره؛ فليست تلك وللأسف ثقافة تعلّمها "الإسلاميّون" من سلفهم "الصالح".
الديموقراطيّة في ليبيا
كلمة الديموقراطيّة في ليبيا تعتبر ثقافة دخيلة بكل المعايير، وربما تداولت بطريقة أو بأخرى في العهد الملكي، وربّما أيضاً أستخدمت صناديق الإقتراع، وأنشئ برلماناً "منتخباً" لكن الثقافة في حد ذاتها لم تتجذّر في عقول وتفكير الليبيّين.
الطاغية القذاقي تحدّث كثيراً عن الديموقراطيّة، وقرّر العودة إلى ديموقراطيّة أثينا (الديمقراطيّة المباشرة) من خلال ما كان يسمّى ب"سلطة الشعب"، لكن الطاغية القذّافي لم يفهم المعاني الحقيقيّة لسلطة الشعب فأساء إستخدام هذه العبارة إلى درجة "الفجور"، وربّما وجد أن الأيسر من تطبيق الديموقراطية المباشرة بالنسبة له أن يحتكر جميع السلطات بين يديه، وأن يمسك بكل مقاليد الحكم بين أسنانه وظل كذلك إلى أن نال ما يستحق على أيدي ثوّار مصراته.
إن غرابة هذه الثقافة (الديموقراطيّة)علينا هو ما جعلها غريبة في تفكيرنا وفي ممارستنا، ومن هنا كان التخبّط الكبير في تعامل المجلس الإنتقالي مع قضيّة الإنتقال نحو الديموقراطيّة. أما مواقف التيّارات الإسلاميّة من تطبيق الديموقراطيّة في ليبيا فإنّها بالفعل تبدو أكثر غرابة ونشاز... بل يمكننا القول "تناقض" بسبب أن الديموقراطية تعتبر وبإمتياز "بدعة" وثقافة غريبة لا غرابة في أن يكفّر المطالبة بها الكثير من الإسلاميّين. ولكن هل يعني هذا أن نغمض أعيننا ونصم أذاننا وألاّ ننتبه للعالم المحيط بنا؟. هل يعني هذا أننا نتشبّث بماضينا الذي لم يعرف الديموقراطيّة على الإطلاق، بل ولم يعرف عبارة التداول على السلطة في ظروف وثقافات كانت لا تعرف غير توارث السلطة بين أبناء وأحفاد وأحفاد أحفاد العائلة الواحدة بذلك القدر الذي جعل من ملوك المغرب يفخرون بنسبهم إلى فاطمة الزهراء، وكذلك كان الملك إدريس السنوسي في ليبيا، وكذلك كان ملوك الأردن الهاشميّين، وملوك السعوديّة الهاشميين أيضاً. سلطان عمان هو بدوره يرجّع نسبه إلى فاطمة الزهراء.
سؤالي الذي أظنّه وجيها يقول: كيف يحق للبعض في عالم اليوم المطالبة بعودة الخلافة الإسلاميّة؟. لماذا يا أيّها السادة تطالبون بعودة الخلافة الإسلاميّة؟. هل قرأتم بتجرّد ماذا كان يحدث من مآسي وفتن وإقتتال وحروب وغدر وتسلّط أيّام الخلافة الإسلاميّة بعيد وفاة الرسول عليه السلام وحتى إنتهائها بالهزيمة النكراء في الأندلس نتيجة للتناحر بين "أمراء" الخلائف الإسلاميّة التي تجاوزت الستة "ممالك" في بلاد الأندلس وحدها؟.
مراحل تأسيس الدولة المدنيّة في ليبيا
بعد الإنتصار على كتائب الطاغية القذّافي والقضاء عليه وعلى نظام حكمه، أصبح لزاماً على الشعب الليبي الشروع في بناء الدولة العصرية بحيث تنسجم مع واقعها ومع عصرها. بدون شك مثل هذا البناء سوف تعترضه الكثير من المشاكل بسبب عدم دراية الناس في ليبيا بمتطلبات المرحلة، وبسبب ترسّخ ثقافة التملّك والإمتلاك لدى أغلب أفراد الشعب الليبي الذين يتجاوز عدد من ولد منهم في عهد الطاغية القذّافي وتشبّعوا من ثقافة نظام حكمه ال 70% أي حوالي 4.5 مليون ليبي وليبيّة. تلك الثقافة هي من يقف في وجه التغيير بل ويقاومه بكل قوّة من أمثال الميليشيات العسكريّة، والجماعات الإسلاميّة ـ والإخوان المسلمون على وجه الخصوص -، وكذلك دعاة الإنفصاليّة والتشرذم من أمثال دعاة الفيدراليّة الذين شعر أغلبهم بالإحباط نتيجة لعدم حصولهم على وظائف قياديّة في المجلس الإنتقالي والحكومة من أمثال الدكتور أبوبكر مصطفى بعيرة والسيّد أحمد الزبير السنوسي الذي حرم من السلطة في عهد عمّه محمد إدريس السنوسي، وفي عهد الطاغية القذّافي، ثم أخيراً في عهد ليبيا الجديدة مع أنّه كان من بين أعضاء المجلس الإنتقالي لكنني ظننته كان يطمح إلى ما أبعد من ذلك.
برغم عدم وضوح الرؤية، وبرغم كثرة الإلتباس، وبرغم غياب التوعية السياسية للناس إلاّ أن عمليّات التغيير في ليبيا ما بعد 17 فبراير يمكن تلخيصها في المراحل الثلاث الآتية:
1. المرحلة الإنتقاليّة الأولى: وهي مرحلة تمت بالتوافق لصعوبة الإنتخاب وأخذ رأي الشعب.
2.المرحلة الإنتقاليّة الثانية: وهي مرحلة إنتخابيّة لكن تعتريها الكثير من الشوائب ذلك لأنّها تستند إلى إعلان دستوري وضعه أناس غير منتخبين.
3. المرحلة النهائية: وهي المرحلة التي يفترض بأنّها سوف تكون ديموقراطيّة 100%.
الذي يحدث الآن (المرحلة الإنتقاليّة الثانية) يمكن تلخيصه في الآتي:
1) إنتخابات يونيو: إختيار أعضاء المجلس الإنتقالي المنتخب (المجلس الوطني).
2) المجلس الإنتقالي المنتخب سوف يوافق على إستمرار الحكومة الحالية، تعديلها، أو حلّها وتشكيل حكومة جديدة على أساس "التعيين".
3) المجلس الإنتقالي المنتخب سوف "يعيّن" أعضاء المجلس التأسيسي الذين سوف يصوغون الدستور.
4) الدستور بعد صياغته من أعضاء المجلس التأسيسي "المعيّن" سوف يعرض على الشعب للخوض فيه وتعديل ما يلزم تعديله.
5) تعاد صياغة الدستور من قبل اللجنة التأسيسيّة، وتعرض النسخة المنقّحة والمعدّلة على الشعب ليقول رأيه فيها من خلال صناديق الإنتخاب.
6) يصبح الدستور ساري المفعول بمجرّد المصادقة عليه من قبل الشعب الليبي.
7) تبدأ بعد ذلك المرحلة النهائيّة من مراحل تأسيس الدولة المدنيّة العصريّة بناء إستناداً إلى نصوص الدستور.
دعاوي لليبيّين والليبيّات للمشاركة في الإنتخابات
وختاماً... أود أن أقول إن الانتخابات الحرة لوحدها ليست بكافية لكي يصبح بلد ما ديمقراطيّاً؛ فثقافة المؤسّسات السياسيّة والخدمات المدنية فيه يجب أن تتغيّر أيضاً... وهذه تعتبر في حد ذاتها نقلة ثقافية يصعب تحقيقها خاصة في الدول التي إعتادت تاريخيّاً أن يكون إنتقال السلطة فيها عبر التوارث الأسري وفق خدعة "المبايعة" التي تعتبر تحصيل حاصل يصبح إلزاميّاً في أغلب الأحيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك