هناك فرقا جوهريّا بين من يبحث عن الحريّة وبين من يبحث عن الجاه والسلطان..... فالأوّل يموت من أجل تحقيق هدفه وحسبه ذلك؛ أما الثاني فإنّه يقتل الآخرين من أجل بلوغ غاياته ولا يحفل بمن وكم يضحّي طالما أنّه هو من سوف يبقى للتلذّذ بنشوة "الإنتصار".
من جانبي.... أنا أرى الأمور واضحة المعالم، والوقائع على الأرض أبلغ من أن نبحث عن وصف أو مسمّيات لها. إن الذي حدث في بلادنا منذ عام 1969 وحتى يومنا هذا يتجاوز مقدرتنا على السرد، وقدرتنا على التحمّل.... فالأحداث جسام، والمؤثّرات قوية وعميقة.
لا أدري كيف يختلف الليبيّون في تصنيف ممارسات القذافي طيلة عقود حكمه السوداء، وكيف تتباين تفاعلاتهم مع الخراب الذي تركه هذا الطاغية على الأرض. لقد قتل بدون رحمه، وشرّد بدون شفقه، وعذّب بدون إحساس، وخرّب بدون هواده، وتمادى في كل ذلك بدون تردد. لم تكن ممارسات القذّافي في ليبيا خاضعه لنمط أو منهج، أو إستراتيجية؛ بل إن كل ما فعله القذّافي كان عشوائيّا، فوضويّا، وإرتجاليّا بكل المعايير مما يعكس حقارة ودناءة هذا المخلوق الغريب. إن المحلّل لتصرّفات العقيد القذّافي طيلة العقود الأربعة الماضية ليصل إلى خلاصة سريعة لاتحتاج إلى الكثير من العناء أو التفكير مفادها بأن هذا المخلوق إنما كان يبحث عن هدف واحد إرتسم في مخيلته ونضج في تفكيره... وهو السعي من أجل الجاه والسلطان والعمل على بلوغ ذلك بأي ثمن.... وفعلا بأيّ ثمن.
المشكلة ليست في تفكير القذافي، ولا في غايته المنشوده، ولم تكن أيضا في الوسائل التي سلكها من أجل تحقيق تلك الغاية أو الغايات فالقذّافي في نهاية المطاف ما هو إلا بشر مثلنا وله في أن يفكّر ويحاول ويسلك ويستخدم أيضا كما أراد؛ لكن المشكلة بكل أبعادها تكمن فينا نحن "الشعب". كيف إرتضى هذا الشعب لمعتوه مثل القذافي في أن يحكمه، ويتحكّم في مصير حياته؟. هذه هي المشكلة التي تحتاج إلى بحث جدّي، وإلى نقاشات وحوارات ومشادّات وتحاليل إلى أن نعثر ـ نحن كليبيين وليبيّات ـ على إجابة شافية لذلك السؤال البديهئ والذي يقول: كيف رضى الشعب الليبي لمعتوه بأن يعبث بمصيره ومستقبل حياته؟.
المشكلة من وجهة نظري تقبع في داخلنا... تكمن فينا نحن كليبيين؛ وعلينا أن نبحث في داخلنا عن أسبابها لأننا إن لم نفعل فسوف تتكرر علينا الأحداث والشواهد، ويتكرر علينا العقيد القذافي مرّات ومرّات في صور وأشكال وهيئات مختلفة.
لماذا يستمر عشرات الألاف من الليبيين في الدفاع المستميت عن نظام الطاغية القذافي رغم معرفة الجميع بأن هذا النظام هو منته بكل الحسابات، وبكل التخمينات، وحتى بكل النوايا الحسنة، والتفاؤلات الغير مشروطة، والآمال الخيالية؛ علينا كليبيين وليبيات أن نتيقّن بأن نظام حكم القذافي لايمكن له من أن يستمر على الإطلاق؛ والعقيد معمر القذافي ـ أو أي من أبنائه ـ سوف لن يحكموا ليبيا مهما إستماتوا من أجل تحقيق تلك الغاية المستحيلة... هذه حقيقة وعلى كل الليبيين أن يكونوا على بيّنة ودراية.
لنأخذ مثلا الدكتور البغدادي المحمودي... هذا الشخص يعتبر طبيبا متمرّسا درس علوم الطب ومارسها. بالطبع هو يعرف يقينا بأن علوم الطب ترتكز على الواقع ،وعلى المنطق، وعلى الأدلة والبراهين. كيف يستمر الدكتور البغدادي في الدفاع عن حاكم منته الصلاحية حتى وإن كان ما يهم البغدادي هو نفسه ومصيره الشخصي؟.
نحن نعرف بأن الدكتور البغدادي كان قد سرق من أموال الليبيين ملايين إن لم تكن مليارات، ونعرف بأنّه إستغلّ منصبه من أجل خدمة مصالحه الشخصية في وقت كان المطلوب منه فيه بحكم وظيفته أن يخدم مصالح الناس الذين تكفّل بخدمتهم. البغدادي مارس الفساد وأجازه بينما كان يمارس وظيفة عامة لها مواصفاتها ولها ضوابطها؛ لكنّه مازال بإمكانه أن يعود إلى رشده الآن، وبيده أن يقلع عن هذه الممارسات الآن، وبإمكانه أن ينظمّ إلى جحافل الثائرين على نظام الطاغية فينظّف يديه، ويقلل من أثامه، وينحاز إلى أهله. نعم إنه مازال الوقت مناسبا جدا للدكتور البغدادي المحمودي في أن يعود إلى رشده، وأن يثور على واقعه، وأن ينتصر لنفسه فيحررها من هذا الظلال الذي تسير فيه.
يا دكتور البغدادي إستمع إلى النصيحة الآن وقبل فوات الآوان... أنت تعرف يقينا بأن نظام العقيد القذافي كان قد إنتهى، وبأنّه سوف لن يحكم ليبيا على الإطلاق بعد كل الذي حدث. إذهب وأسأل أهل مصراته، وأهل بنغازي، وأهل طبرق، وأهل جبل نفوسه، وأهل الزاوية.. أسألهم عن مشاعرهم الحقيقيّة تجاه القذافي وسوف تسمع العجب. هؤلاء الناس - وأسوة بكل الليبيين - سوف لن يرضوا بالقذافي أو أي من أبنائه بأن يحكموا ليبيا من جديد. الليبيون قرروا بأن نهاية القذافي قد حانت، وسوف لن يتوقّفوا بعد كل الذي حدث دون بلوغ غايتهم ولو ماتوا جميعا. هل يمكنك الآن الإنظمام إليهم لتصبح واحدا منهم يحبّونك ويقدّرون وقفتك؟. نعم... صدقّني يمكنك بلوغ ذلك وبدون عناء يذكر.
إذهب إلى تونس ومنها أعلن إنشقاقك عن نظام القذافي المتهالك، ثم بعد ذلك مباشرة وفي خطاب الإنشقاق أعلنها لكل الليبيين بأنّك تتنازل عن كل ثرواتك لإخوانك الليبيين المشرّدين على الحدود التونسية بمناسبة شهر رمضان الفضيل، وبعدها سوف ترى كم يقدّر لك الشعب الليبي ذلك الموقف. أعلن بأنّك أعلنت التوبه لله، وبأنّك ظلمت نفسك لكنك الآن ثبت إلى رشك، وأيقظت ضميرك، وعدت صادقا إلى ربّك. إنّك بذلك تضمن لنفسك النجاة، وتتأكّد من آمان مستقبلك، ومستقبل أفراد أسرتك لأن الشعب الليبي سوف لن يؤذيك طالما أنك كنت صادقا مع نفسك، ومع ربّك، وبالطبع مع أهل بلدك.
فكّر فقط في مصيرك وأنت تسير في ركب حاكم زائل.. فكّر في الخاتمة. إنّك بذلك تحكم على نفسك بالإنتحار... نعم الإنتحار لك، ولكل أفراد أسرتك وعليك أن تراها كذلك لأنّك في نهاية الأمر تعتبر طبيبا مهمّتك تنبيه الآخرين وتحذيرهم من عواقب الممارسات الخاطئة.
بالنسبة لما حدث في بنغازي والذي أعلن عنه هذه الليلة...... والذي أدّى إلى تلك الخسارة الجسيمة للشعب الليبي المستميت من أجل إنتزاع حريته وبأي ثمن، والذي أودى بحياة إنسان مخلص لليبيا، ومخلص لهدف نبيل جوهره البحث عن الحرية.... ذلك الإنسان الجسور هو الفقيد المغدور به اللواء عبد الفتّاح يونس.. بالنسبة لهذه الواقعه المشينة أقول لنفسي ولكل الليبيين: علينا بالبحث عميقا في داخلنا لمعرفة حقيقة أمرنا بهدف تطهير أنفسنا من آفة الآنانية وضيق الأفق. علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، وصريحين مع غيرنا، وأنقياء مع محيطنا، وأتقياء في علاقتنا مع ربنا فإغتيال اللواء عبد الفتّاح يونس كان غدرا وسخفا وحقارة ودناءة مهما كانت المبررات، ومهما كانت الدوافع؛ وعلينا جميعا كليبيين أن نكون على بيّنة تامة بأن من غدر باللواء عبد الفتّاح يونس لم يكن الطاغية القذافي، ولم تكن أجهزة أمنه، ولم تكن قوى غريبة، وليست هي الإستعمار ولا الصهيونية... إن الذين غدروا باللواء عبد الفتّاح يونس هم من بين أهله ومن بين من يحسبون على الثوّار وللأسف؛ وهؤلاء عليهم التيقّن بأنّهم يفعلون تحديدا ما يريد فعله الطاغية القذافي بثوّار ليبيا، وبأهل ليبيا الذين خرجوا يبحثون عن الحريّة.
علينا الآ نعطي الطاغية القذافي دعاية لايستحقّها، ودعما معنويّا هو في أمسّ الحاجة إليه خاصة بعد تلك الإنتكاسات في منطقة جبل نفوسه وحتى الحدود التونسية بأن نحمّله وزر ما حدث من غدر في بنغازي لرفيق النضال من أجل الحرية. إن من إغتال اللواء عبد الفتّاح يونس هم أولئك الذين يفكّرون بجيوبهم وكروشهم ودناءتهم وحقارتهم وأمراضهم النفسية وكرههم للحرية. إن من خطّط لإغتيال اللواء عبد الفتّاح يونس هو ليس الطاغية القذافي؛ لكنّه طاغية آخر هو أشد طغيانا وحقارة من العقيد القذافي نفسه... وعلى أولئك أن يتأكّدوا بأنّهم لا مكان لهم في ليبيا الجديده...... ليبيا التي رسم معالمها شباب ليبيا الحالم الذي سوف لن يرضى بأمثال هؤلاء الحقراء ليحكموا ليبيا بعد كل تلك التضحيات الجسيمة..... وليخسئ أصحاب الآفاق الضيّقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك