ليبيا هى الوطن الذي ننتمي إليه، وهي الأرض التي نفترشها، والسقف الذي يأوينا، والغد الذي ننظره... ليبيا هي أمّنا جميعا فإن نحن رأيناها كذلك فلحنا، وإن قمنا بخدمتها نلنا رضاها.
ذهبت يوم السبت 16 يوليو إلى لندن لحضور ملتقى للأدمغة الليبية المهجّرة دعى إليه عدد من أبناء ليبيا الذين وهبوا أنفسهم لخدمتها والمقابل الوحيد الذي منّوا به أنفسهم هو أن يروا بلدهم متقدّما كبقية شعوب العالم التي سبقتنا بكثير بعد أن إغتصب بلادنا الغجر وحكموها كقطّاع طرق فسروقوا أموالها، وعبثوا بخيراتها، وقهروا أهلها، وقتلوا روح المثابرة بين مواطنيها؛ فحقّروا وإحتقروا كل ما هو ليبيّ، وعمدوا على بدونة كل ما هو متحضّر، وحاربوا كل ما هو متمدّن ذلك لأن طبيعتهم ونشأتهم لم تحتمل المدنية ولم تتمكن من الإستراحة في نعيمها لأن مثل هؤلاء البشر لايستطيعون العيش في بيئة نظيفة وأنيقة؛ فهم كمثل الصراصير تتضخّم وتتكاثر في وسط العفونة. فكما لايتحرّج الصرصور من العيش بين القذاره؛ فلا يتحرّج أولئك الغجر من القضاء على التمدّن لأنّهم لم يألفو العيش في رحابه، ولا يقدروا على الإرتفاع بأنفسهم إلى مراتبه.....
فالأيسر بالنسبة لهم بطبيعة الحال هو محاربته والتخلّص من كل من يسعى لتحقيقه.
كان من بين الذين دعوا إلى ذلك اللقاء وعملوا له الأستاذ علي عمر الرميص، وكذلك كل من الدكاترة: محمد دراه، محمد الرمّاش، إيهاب بن سعود، أبوبكر الإصيبعي، عبد الرزّاق شليبك، أسامة سوينية، علاء الكوردي، خالد الرمّاش، سليمان قجم، محمود التكالي، عدنان بونخيلة، نزار التلّيسي، وكذلك السادة: ياسين المغربي، غسّان إعتيقة، أحمد بوهديمة، مطهر شهاب، زهرة عثمان، محمد وعمر وعبد الرحمن وحفصة الرميص بارك الله فيهم جميعا.
المهم أنّني ذهبت لحضور هذا اللقاء بروح مثابرة، وبعقلية متفتّحة، وبأمل كبير، وبرغبة أكيدة للمساهمة فيه بقدر إستطاعتي لأن فكرة هذا اللقاء كانت تخامرني منذ فترة من الزمن ربما تعود إلى مارس الماضي حين بدأت علامات نهاية نظام حكم الطاغية القذافي تلوح في الأفق، وحين بدأ أملنا في التحرر من العبودية - التي فرضت علينا لأكثر من أربعة عقود من الزمن - يتحوّل من حلم بعيد المنال إلى واقع يرتسم على الأرض، وتتضّح معالمه في كل يوم يمر منذ 15 فبراير 2011 وبالطبع مرورا ب 17 فبراير وما تبعه.
كان حلمي الأكبر دوما أن أرى خيرة أهل بلادي يحكمونها ويسيّرون أمورها معتمدين على أنفسهم مع بالطبع إنفتاحهم على غيرهم فأنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، ولا أعترف بفكرة الإبتعاد عن البلاء بغرض تفادي شروره؛ بل إنني أؤمن بأن الإنسان الواثق بنفسه، والمؤمن بقدراته هو من يواجه البلاء بغرض هزيمته أو إيقافه فإن فشل في الإثنتين فإنه عليه أن يكيّف نفسه للتعايش معه بدون الذوبان بفعل تأثيراته.
كانت فقرات الفترة الصباحية تشعّ بالأنوار، حيث تلالأت الكلمات وإنطلقت في الهواء العليل لتعانق نسائم الحرية التي كان يزفر بها كل الحاضرين؛ وبالفعل كان الصباح جيدا بفقراته وبمتحدّثيه، وبسلاسة مسيرته التي كانت حثيثة تحاول مجاراة الزمن ( لا مسابقته) لأن الزمن كان بالفعل أسرع من كل الحاضرين، وكان أسرع من المتحدّثين، وكان أسرع من المنظّمين لكن على ما أظن أن الجميع خرجوا من ذلك الصباح المتشبّع بالأفكار النيّرة ليلتقوا حول وجبة الغذاء وكل منهم تسيّره شرارة التفائل تجاه هدفها وغايتها فالكل ظل متفائلا إلى حينها، وقليل بعد ذلك.
عاد الجمع - كان ربما يتجاوز المائتين بقليل – إلى مكان الملتقى وهم ربما كانوا أكثر حماسة، وقد يكونون أكثر أمل بأن ينتهي ذلك المساء بمثل نهاية الصباح؛ لكن الرياح لايمكن لها من أن تظل هادئة فكل شئ في حياتنا يسيّر من وراء الأفق – افق مقدرتنا على فهم الأشياء – حتى وإن حاولنا مسك عجلة القيادة بأيدينا، وحاولنا تسيير عربة حياتنا وفق مقاصدنا.
لم يكن المساء كما كان الصباح والسبب ربما كان واضحا لمن فكّر في الأمر. كان الجميع في فترة الصباح مستمعين؛ غير أنّهم مكّنوا من إسماع الغير في فترة المساء – والغير هنا بالطبع هو هم – وهنا بدأ عبق "الأنا" يفوح في المكان، وبدأ حملة الشهائد العليا والمراكز المرموقة -أغلبهم- يرون أنفسهم قبل الوطن... ,اظنّهم كانوا قد آتوا بتلك المشاعر معهم؛ بمعنى أن تلك لم تكن وليدة الصدفة، أو نتاج اللحظة.
حين سمح للناس بأن يستلموا أمورهم لم يتمكّنوا من المسك بتلابيب الثنايا وهنا بدأ "التحرّش اللفظي"، وهنا بدأت الحرارة ترتفع شيئا فشيئا حتى تأكسد المكان فإنحسر في خشوع ذلك العبق، وإنسحب في هدوء ذلك الأمل، وتسمّر القيظ في مكانه ليعلن سيادته على الحاضرين فبخّرت حرارة المساء قطرات ندى الصباح وكادت الأحلاق أن تجفّ بفعل الصراخ؛ لكن عامل الزمن تدخّل من جديد ليهمس للمجتمعين بأن ينصرفوا قبل أن تبحّ الأصوات، وتتشابك الأيادي.
هنا حاولت أن أعدد منجزات هذا اليوم الذي مضى ففجأتني الحصيلة: ذهبت لحضور ذلك الملتقى بكثير من الأمل، وتوقعت منه الكثير؛ لكنني خرجت منه بكثير من التشاؤم، وبدأت بالفعل أرى فترة ما بعد سقوط نظام القذافي تتجلّى أمامي بكل هيأتها... بظلالها، وبظلماتها، وبحطامها وإنكساراتها لكنني مع كل ذلك لم أفقد الأمل، ولم أرض بالهزيمة، ولم أستسلم لليأس.
من البديهئ بأنني لم أخرج من مثل هذا الملتقى - ملتقى العقول الليبية – بدون حمّص؛ لكنني خرجت بالكثير من العبر، والكثير من الإستنتاجات.
لا أريد أن أسمح لنفسي بأن أسترسل في الحديث عن السلبيات فنحن لازلنا في بداية الطريق، والليبيون لم يتعودا بعد عن التحدث لبعضهم. الليبيون لم يتعلّموا بعد "فن" الإستماع للغير، والتعلّم من الرأي الآخر؛ لأننا وللأسف كلنا نعتبر أنفسنا "من يعلّم الآخرين" فكيف بنا للإستماع إليهم نستكين.
تلك كانت فلسفة الطاغية القذافي، والطاغية القذافي هو إبننا؛ أي أنه لم يأتينا من كوكب آخر. نحن من أنتج معمر القذافي، ونحن من سوف ينتج مثله في المستقبل ذلك لأننا من كان قد صفّق لإدريس السنوسي، ونحن من غنّى ورقص لبنيتو موسيليني، ونحن من كان قد قد إستظلّ تحت إبط أبناء عثمان (الأتراك) وذلك هو نحن وعلينا الإعتراف بها علّنا ننتهز هذه "الصحوة" - ربيع ثورة الإنسان العربي – كي ننثر التراب المترسّب على كواهلنا خلال قرون من الزمن... وليس عقود منه فقط.
نعم... أنا هنا لا اريد أن أتحدث عن السلبيات فنحن ما زلنا في بداية المشوار ولايجب عقلانيا أن نتوقّع الكثير في بلد عاش أهلها مهمّشين لأكثر من 40 سنة.
الشعب الليبي لم يتعوّد على الحوار، ولم يمكّن من التفكير في شئون حياته حيث حكم بلادنا ديكتاتورا نصّب من نفسه "المفكّر" لنا بالنيابة عنّا... وإرتضيناه، بل وباركناه ليقوم بتلك المهمة. ألسنا نحن من تغنّى: علّمنا يا قائد علّمنا كيف نسيروا في مستقبلنا؟.
حكمنا القائد الأوحد، والمفكّر الوحيد ما شاء وكما شاء، وحين بلغ به العمر أرذله؛ أنتج لنا "نسخا" منه تمثّلت في أولاده الذين هم بدورهم حاولوا الركوب على ظهورنا بعد أن نظروا إلينا بأطراف أعينهم فرأونا مثل – أكرمكم الله – الحمار القصير؛ والمثل الليبي يقول: الحمار القصير كل حد يركب عليه.
حاولوا بأن يقنعونا بأننا لانملك شيئا في بلادنا لأننا نحن لايمكننا إلا أن نكون خدما في بلادنا.. والخدم يحتاجون إلى سادة يحكمونهم. سادوا علينا - أو حاولوا – ولم يحسّوا بالخجل فهؤلاء هم أبناء الرعاع، والصفات تسير في جيناتهم الوراثية.
بحمد الله قامت ثورة في تونس؛ ثم لحقتها أخرى في مصر فأصابتنا العدوى من حيث لاندري.... وبحمد الله أفاقت تلك الثورات "الإرادة" بداخلنا وبدأنا نستشعر قوتنا بعد أن أصابنا الوهن لكن فترة نقاهتنا سوف تكون طويلة... وطويلة جدا؛ هذا إن لم ننتكس، أو أن نصاب بالوهن من جديد.
وعودة إلى "ملتقى العلماء والمفكّرين الليبيين" أو ما أتفق على تسميته ب"المجمع العالمي للخبرات الليبية"... وكم تمنيت لو أنّه سمّي بكل تواضع "الملتقى الوطني للخبرات الليبية" لأن ذلك ربما يحسسنا بحاجتنا كليبيين لبعض، وحاجة بلدنا إلينا؛ ولكن فليكن.
الإيجابيات التي خرجت بها من هذا الملتقى:
1- حضور هذا العدد الجيّد من ذوي الكفاءات العالية، وإجتماعهم تحت سقف واحد.
2- ورقة العمل الرائعة التي أعدّها الأستاذ علي عمر الرميص ( راجع: http://www.al-majma.com/)
3- إجماع كل الحاضرين – وبدون إستثناء – على كرههم العميق لنظام حكم الطاغية القذافي، وفرحتهم العميقة بنهايته.
2- ورقة العمل الرائعة التي أعدّها الأستاذ علي عمر الرميص ( راجع: http://www.al-majma.com/)
3- إجماع كل الحاضرين – وبدون إستثناء – على كرههم العميق لنظام حكم الطاغية القذافي، وفرحتهم العميقة بنهايته.
بدون شك ذهاب القذافي وإنتهاء نظام حكمه البغيض سوف يفتح الباب للمهجّرين الليبيين للعودة إلى بلادهم بهدف ممارسة مهنهم التي تعلّموها وتفنّنوا فيها أثناء إقامتهم المؤقتة في أوروبا حتى يساهموا في مساعدة إخوانهم في ليبيا الذين حرموا من خبرات بلادهم بسبب ممارسات نظام حكم الديكتاتور المتخلّف الذي يكره العالم ويمقت العلماء. سوف يفيد العائدون من المهجر أيضا شباب ليبيا للنهل من صنف العلوم، والتوق إلى تعلّم نفس الخبرات التي تعلّمها أبناء وبنات ليبيا أثناء فترة تواجدهم في الخارج؛ وبذلك يساهم هؤلاء الخبراء والمفكّرين في بناء الإنسان الليبي الجديد الذي سوف بإذن الله ينظر إلى الأمام، ويعمل على اللحاق بالبلاد التي سبقتنا.
هناك بعض المآخذ التي أرى البوح بها بهدف أن نقوم كليبيين بإصلاح أنفسنا... من بين هذه المآخذ هو أن ابناء ليبيا المهجّريين أصبحوا وللأسف غرباء على لغتهم العربية، وأخذ كل منهم يتحدّث بلغة البلد التي تعلّم وتدرّب وعمل فيها وكأنّه لم يعد ينتمي إلى حضارة وثقافة البلد التي ولد فيها، وشبّ على ترابها. كان الكثير من المتحدّثين يجيدون العربية لكنّهم تحدّثوا بغير العربية ربما لأنّهم كانوا يظنّون بأن أحسن وسيلة لإحساس الغير بمستوى تعليمك ومكانتك الأكاديمية هو أن تتحدّث بلغة البلاد الراقية..... ربما كان هذا صحيحا خاصة لو أننا نظرنا إلى هذه الظاهرة بمنظار أوسع ليشمل ربما كل البلاد العربية وخاصة سكان منطقة الخليج العربي، وكذلك سكان مصر على وجه العموم.
ذلك بالطبع كان إختيارهم؛ لكنني أرى الكثير من المشاكل التي سوف يواجهها هؤلاء حين يعودون إلى ليبيا... مشاكل إجتماعية مثل الإختلاط والمقدرة على العمل الجماعي، ومشاكل مهنية مثل التفكير الجماعي، والرضاء بمن هو أقدر ليكون في المقدّمة ليسير معه ووفق إرشاداته من هم أقل منه علما وخبرة.... أيضا؛ فليكن الجميع على بيّنة فلعلّ ملاحظة صغيرة تفيد أعدادا كبيرة... والله شاهد على المقاصد.
وخلاصة ما وددت الكتابة عنه اليوم في باب ما بعد الطاغية القذافي هو أننا مازلنا بعيدين كثيرا عن فن التحاور والتشاور مع بعض كليبيين، وبأن عنصر "الترفّع" مازال قويا بيننا وللأسف؛ كما أن "الأنا" مازالت تعشعش عميقا في سلوكنا وتصرفاتنا بحيث تخسف وراءها ليبيا كوطن، وليبيا كأهل وشعب... وهذه سوف تكون لها سلبياتها المفسده.
لابد أن تكون ليبيا هي مركز إلتقاءنا، ومرمى تفكيرنا، وهدفنا المنشود بحيث تذوب الأنا في بوتقة الوطن ونتمكن حينها من رؤية مجدنا ووجاهتنا من خلال بلدنا؛ وعندها فقط نقترب من بعض كليبيين وليبيات بشكل أقوى، وبإحساس أخوي أعمق من شأنه بأن يخلق الإنسان المحب للغير، والفاعل للخير، والمتعاون من أجل تعميم الفائدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء وضع تعليقك